"لعنة" العراق تصيب الجميع وأولهم العرب والمسلمون

تتكاثر كل ساعة النتائج الخطيرة المدمرة التي خلفها ولا يزال الغزو والاحتلال الأمريكي ـ البريطاني للعراق. وفي الولايات المتحدة نفسها ـ وهي البعيدة كل البعد جغرافياً عن العراق ـ أكد التصويت الأخير في انتخابات الكونجرس النصفية وحكام الولايات أن "لعنة" العراق قد أصابت الحزب الجمهوري الذي ظل مهيمناً على الإدارة والكونجرس طال السنوات الخمس الماضية، ليفسح الطريق أمام سيطرة كاملة لمنافسه الحزب الديمقراطي على مجلسي الكونجرس. وفي عالمنا القريب من العراق، أي العالم العربي وجزء كبير من العالم الإسلامي المتاخم له وحتى في بلدان أخرى غربية تعد بعيدة عنه جغرافياً، فقد اتخذت "لعنة" العراق صوراً أخرى أكثر دموية وفوضى عما أحدثته في الولايات المتحدة من تغييرات سياسية عبر صناديق الاقتراع. وكل ذلك بالطبع يعد نتائج وظواهر "ثانوية" لتلك "اللعنة" العراقية بالمقارنة مع ما أصاب العراق الشقيق نفسه من مصائب وكوارث تتلاحق كل ساعة ولا يستطيع المرء ملاحقة تفاصيلها المروعة ولا يملك مجرد التفكير في كيفية الخلاص منها.
وبتركيز أكثر على نتائج احتلال العراق على العالمين العربي والإسلامي ودول الجوار المحيطة، يبدو واضحاً أنه أطلق العنان لموجة واسعة من العنف والتطرف الديني والسياسي راحت تتجسد في شكل مجموعات وجماعات صغيرة ومتوسطة من "الإسلاميين" تعتنق فكر العنف والإرهاب وتسعى بكل ما تملك من وسائل لممارستهما. وقد بدا واضحاً من تتبع عمليات العنف والإرهاب التي راحت تضرب عدداً من الدول العربية المجاورة للعراق منذ احتلاله أنها ترتبط جميعاً بصلة ما مع ذلك الحدث الكبير. ومنذ وقوع تفجيرات أيار (مايو) 2003 في العاصمة السعودية الرياض وبعدها بأسبوع في العاصمة التجارية للمغرب الدار البيضاء مروراً بما جرى بعد ذلك في قطر، الكويت، الأردن، وسورية ومصر، بدا واضحاً لكل ذي عين أنها ترتبط جميعها برباط واحد عميق تمثله الدوافع والأسباب التي أدت إلى كل ذلك وهو غزو العراق واحتلاله وما يجري بداخله من صراعات مسلحة شديدة العنف بين الفرقاء والأصدقاء كافة.
وقد أدى ذلك الوضع المعقد الكارثي في العراق إلى ظهور ما سبق وأسميناها "الموجة الثالثة" من الإرهاب التي يمكن تسميتها "الإرهاب الدولي المنفلت والمختلط بالإرهاب المحلي" التي راحت تعاني منها حالياً معظم بلدان العالم العربي والشرق الأوسط والعالم الإسلامي وبعض البلدان الغربية أيضاً. وقد اتسمت تلك الموجة الجديدة بمجموعة رئيسية من السمات والخصائص المختلفة عما كان لموجتي الإرهاب السابقتين لها، وهما "الإرهاب المحلي المنظم" و"الإرهاب الدولي المنظم". أولى تلك السمات هي الاتساع الشديد في عدد ونوعية المنضمين إلى هذه الموجة بحيث شملت جماعات منظمة كبيرة وأخرى متوسطة وثالثة صغيرة ومجموعات شكلت حديثاً وأعدادا كبيرة من الأفراد غير المنضوين تحت أي جماعة أو مجموعة. وقد سبق لنا إطلاق تسمية "الدولية الإسلامية الجهادية الجديدة" على من يشكلون تلك الموجة، وهي التسمية التي استبدلناها بتسمية "نموذج وفكرة القاعدة" في أحيان أخرى. وبغض النظر عن دقة هذا المصطلح أو ذاك، فإن المنضمين إلى تلك الموجة الثالثة بدوا جميعاً واقعين تحت تأثير الأحداث الإقليمية والدولية أكثر من الأحداث المحلية في بلدانهم، وبدت رغبتهم واضحة في المشاركة في تغيير تلك الأحداث بالوسائل التي يملكها كل منهم، وإن ظل جوهر تلك الوسائل هو القوة والعنف. كذلك فقد بدت السمة الثانية واضحة في أن صور وحجم الأنشطة العنيفة والإرهابية للمشاركين في تلك الموجة بدت مختلفة بحسب الظروف الداخلية لكل بلد عربي وطبيعة تطور الحركات الإسلامية الجهادية بداخله وخبرات الدولة في التعامل معها.
وتعلقت السمة الثالثة الرئيسة لهذه الموجة الجديدة بالدور المركزي الذي لعبته شبكة المعلومات الدولية (الإنترنت) في تشكيلها ونقل الأفكار والخبرات عبرها بين الجماعات والمجموعات والأفراد الذين يشكلونها. وقد بدا جلياً خلال الأعوام الخمسة الأخيرة على الأقل أن لجوء عدد من الحركات الجهادية والمجموعات والأفراد خلال السنوات الأخيرة إلى الشبكة الدولية للمعلومات لم يكن فقط من أجل استخدامها لعرض وتوصيل رسائلها السياسية والدينية, بل تحولت لدى معظمهم إلى أداة لمواجهة أعدائهم باعتبارها "أداة جهادية" في حد ذاتها. وقد وفر ذلك النوع من "الجهاد الإلكتروني" لهذه الحركات والمجموعات والأفراد الذين يشكلون الموجة الثالثة إمكانات واسعة لتبادل الأفكار والفتاوى والخبرات الميدانية العملية، مما أعطى في النهاية شكلاً ومضموناً متشابهين لما يقوم به هؤلاء من عمليات عنف وإرهاب في مختلف دول العالم وخاصة العالم العربي. أما السمة الرابعة لهذه الموجة, فارتبطت بنوعية الأفكار التي شاعت بين الجماعات والمجموعات والأفراد المكونين لها. قد بدا ملحوظاً أن أفكار تلك الموجة ترتبط أكثر بالمدرسة السلفية الجهادية من ارتباطها بالمدرسة الجهادية المحلية التي سبق لها الشيوع في بعض البلدان العربية خلال عقد التسعينيات من القرن الماضي. وقد ظهرت تلك المدرسة من دون شك قبل غزو العراق إلا أنها اكتسبت انتشاراً غير مسبوق بعد احتلاله، وأضحى ذلك الخليط من الفكر السلفي التقليدي والفكر الجهادي الدولي والمحلي بحسب خصائصه التي ظهرت خلال عقدي الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي هو المهيمن على المجموعات والجماعات المتطرفة والعنيفة الجديدة المنخرطة في تلك الموجة الثالثة.
والأكثر خطورة في "لعنة" العراق التي خلقها الغزو والاحتلال الأمريكي له، أن نتائجها المتعددة سواء على العراق نفسه أو على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين أو على الدول العربية والإسلامية المجاورة للعراق، تبدو غير قابلة للانتهاء والتلاشي في المستقبل القريب حتى لو انسحب الأمريكيون وحلفاؤهم غداً من العراق. فتلك الظواهر العنيفة، ومنها تلك الموجة الإرهابية الجديدة التي ركزنا عليها في السطور السابقة، أضحت جزءاً من واقع محلي وإقليمي ودولي معقد يصعب نزعه منها دون إحداث تغييرات رئيسة فيه، وهذا موضوع لحديث آخر أكثر استفاضة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي