النفاق السياسي .. وحقيقة الموقف السعودي

<a href="mailto:[email protected]">f.albuainain@hotmail.com</a>

كأني أرى فصول الأزمة العراقية ماثلة بين عيني، توحدت الأهداف واختلفت الشخصيات. عادت الشعارات الثورية للظهور، وبدأت الخطب تقرع طبول الدمار والتحدي، وتسمر الثوريون أمام شاشات التلفزة ينتظرون المفاجأة تلو المفاجأة، قبل أن تصدمهم الأحداث بمفاجآت الواقع الأليم، احتلال الجنوب أو دخول قوات الفصل الأجنبية، ودمار ما تبقى من لبنان.
لنعد بالذاكرة إلى الخلف قليلا، ونتذكر الغزو الأمريكي للعراق، ونعيد سيناريو الأحداث، علّنا نخرج بشيء من الفائدة التي يمكن لها أن ترد على الألسن الحادة التي بدأت في مهاجمة الموقف السعودي الحكيم الرافض للمغامرات السياسية غير المحسوبة التي تحمل الدول العربية ويلات الدمار. قبل دخول القوات الأمريكية العراق، كانت هناك مباحثات دبلوماسية محمومة، واجتماعات متواصلة مع جميع القوى الفاعلة من أجل إنهاء الأزمة الأمريكية ـ العراقية، شكلت فيها السعودية الجبهة المناهضة للتدخل الأمريكي في العراق. عملت السعودية على جبهات كثيرة من أجل وقف التدخل الأمريكي، إلا أن موازين القوى لم تسمح لها بفعل الكثير، ما دفع وزير خارجيتها الأمير سعود الفيصل إلى مناشدة الرئيس العراقي "اتخاذ قرارات مصيرية" لتجنيب العراق وأهله ويلات الدمار. كانت السعودية تعلم علم اليقين بمخططات أمريكا العدوانية الرامية إلى احتلال العراق والسيطرة على منابع النفط، وإشعال الحروب الطائفية، وهو ما دعاها لمكاشفة العراقيين وإسداء النصح لهم من أجل قطع الطريق على الأمريكيين، ووضع حد لمغامرات الرئيس غير المحسوبة التي كانت سببا من أسباب الاحتلال الأمريكي للعراق. استغلت قنوات الفجور الإعلامي الموقف السعودي، وبدأت في تجييش أبواق الدعاية العربية للنيل من المواقف السعودية الشريفة، وإظهار العراق على أنه القوة العظمى التي يمكن لها أن تغرق الجنود الأمريكيين في نهري دجلة والفرات. دخلت القوات الأمريكية العراق، وأغلق الستار على المشهد الأخير من المسرحية؛ احتلال العراق، وتقديم الرئيس العراقي للمحاكمة، وإشعال الفتنة الطائفية التي ما زالت تحصد مئات الآلاف من النساء والأطفال والشيوخ.
المشهد العراقي يبرز من جديد في جنوب لبنان، بعد خطف حزب الله جنديين إسرائيليين، وجدت فيهما الآلة الإسرائيلية سببا مباشرا لتدمير الدولة اللبنانية. شنت القوات الإسرائيلية هجوما عسكريا واسعا على لبنان واللبنانيين، وأنزلت بهم عقوبة جماعية قاسية، قتلت المئات من الأطفال والنساء والشيوخ، ودمَرت البنية التحتية، وأصابت مرافق الدولة بالشلل التام. إسرائيل أعلنت الحرب على لبنان، وأظهرت مخزونها الإرهابي دون تحفظ، وستستمر إلى ما لا نهاية حتى يتم التوصل إلى قرارات دولية حاسمة يمكن لها أن توقف العدوان الإسرائيلي على لبنان.
الموقف السعودي كان أكثر وضوحا وحزما هذه المرة، فقد حمّل الأطراف المتسببة في إشعال فتيل الأزمة كامل المسؤولية حيال تسببها في خلق "وضع بالغ الخطورة يعرض جميع الدول العربية ومنجزاتها للدمار، من دون أن يكون لهذه الدول أي رأي أو قول ". الموقف السعودي الصريح لم يلق آذانا صاغية، ولم يعط حقه المأمول، على اعتبار أن المواقف العربية تتشكل بالشعارات الرنانة، لا بالمكاشفة والمصارحة، لذا لم يكن مستغربا أن يتم رفضه ضمنيا من قبل الأطراف المعنية بإشعال فتيل الأزمة الإسرائيلية التي تركت مهمة تجييش الرأي العام العربي ضد البيان السعودي لقنوات التضليل الإعلامي، متجاهلة كلمة الحق، وموازين القوى، وتعطش الآلة الحربية الإسرائيلية لسفك الدماء وترويع الآمنين وتدمير الدولة اللبنانية.
دخلت الأزمة اللبنانية أسبوعها الثاني دون أن تلوح في الأفق بوادر انفراج فالمجتمع الدولي بأسره لا يمكن له بتغاضيه وتأييد بعض دوله أن يوقف إسرائيل عند حدها، أما الدول العربية فهي أوهن من أن تتخذ موقفا حاسما حيال الأزمة الحالية، عوضا عن التدخل العسكري لوقف آلة الحرب الإسرائيلية. يعيش اللبنانيون كارثة إنسانية بكل ما تعنيه الكلمة، كارثة لم يدرك عواقبها الذين أقحموا لبنان في هذه الحرب المدمرة، ثم عادوا إلى أهليهم وأوطانهم سالمين.
هذا هو الواقع الأليم الذي تنبأت به القيادة السعودية قبل حدوثه، والذي دعاها إلى إصدار بيانها الأول الذي لم يرق محتواه ممتهني النفاق السياسي وتضليل الشعوب. نعود إلى الموقف السياسي العربي؛ حتى هذه اللحظة لم نلحظ تحركا دبلوماسيا عربيا فاعلا ضد إسرائيل أو الولايات المتحدة، فسفارات إسرائيل ومكاتبها التنسيقية في الدول العربية لا تزال مفتوحة، والتواصل الدبلوماسي والتنسيق التجاري لا يزالان يتمان على أعلى المستويات. أليس هذا نوعا من أنواع النفاق السياسي وازدواج الشخصية العربية؟. للأسف الشديد فإن بعض الدول العربية لا تهتم كثيرا بالإنجازات على أرض الواقع بقدر اهتمامها بإرضاء الرأي العام العربي، وهذا جزء من المشكلة العربية المزمنة. لم تعد المسرحيات الدبلوماسية ترضي أصحاب العقول، لكنها تفعل الأعاجيب في محيط العامة، والشعوب المضللة.
الوضوح السعودي لم يتوقف عند إصدار البيان الصريح، الذي أشارت إليه بعض الجهات الدبلوماسية والإعلامية بالبيان المفاجئ، بل نقله الأمير سعود الفيصل وزير الخارجية السعودي إلى اجتماع وزراء الخارجية العرب الذي أُدرجت ضمن مداولاته، أحلام اليقظة ورؤى المنام، كسابقة تضاف إلى أجندة الاجتماعات العربية. طالب الأمير سعود الفيصل بضرورة فتح صفحة جديدة للعمل المشترك، وعدم الاستمرار في تكرار أخطاء الماضي، وأوضح بجلاء القصور الذي أضعف الموقف العربي، حين قال: "أي محلل موضوعي للأوضاع العربية خلال نصف القرن الأخير، لا بد أن يستنتج أن الأوضاع المتردية التي نعاني منها جاءت نتيجة قرارات مرتجلة انفعالية اتخذها الذين اتخذوها دون تفكير في العواقب, وجاءت النتيجة كارثية "، وأضاف أن "المصارحة مهمة مهما كانت جارحة ". التعقل والمصارحة والوضوح شكلت السمة البارزة للموقف السعودي حيال هذه الأزمة المفتعلة. حملت القيادة السعودية المتسببين في إشعال فتيل الأزمة كامل المسؤولية حيال ما يتعرض له لبنان واللبنانيون من دمار شامل، كما أنها عادت لتؤكد مواقفها الثابتة من العدوان الإسرائيلي على الدول العربية، ووجهت انتقادات حادة للمجتمع الدولي على تقاعسه في إنهاء العدوان الإسرائيلي على لبنان. أشار مجلس الوزراء السعودي إلى أن الحرب التي تشنها إسرائيل على لبنان وشعبه واقتصاده ومكونات حياته هي "انتهاك لا يعرف حدا لحقوق الإنسان" وهي "امتداد لسياسات الاحتلال والهيمنة الإسرائيلية في المنطقة "، وأشار ضمنا إلى المسؤولية الأمريكية في عرقلة القرارات الدولية الكفيلة بوضع حد للاعتداءات الإسرائيلية، حين أوضح أن"التأييد المطلق لبعض الدول للسياسات الإسرائيلية أدى إلى إعاقة مجلس الأمن من اتخاذ قرار بهذا الشأن". هذا على المستوى السياسي أما على مستوى الدعم المالي، فلم تتردد السعودية في إرسال المعونات المالية المباشرة للحكومة والشعب اللبنانيين، كعادتها مع جميع الدول المنكوبة، وهي بهذا تثبت حقا أنها تسهم في الدعم والبناء، كما فعلت من قبل، في وقت تتفرغ فيه بعض الدول الأخرى لدمار لبنان وشعبه، وهذه نقطة مفصلية ينبغي على الإخوة اللبنانيين، الإعلاميين منهم على وجه الخصوص، التنبه لها.
أختم بالقول إن ما يحدث في جنوب لبنان من عمليات خارجة عن سيطرة الدولة لا يمكن أن تُلقى تبعاته على الشعب اللبناني بأسره، أما العقاب الإسرائيلي الجماعي فيمكن إدراجه ضمن إرهاب الدولة، وهو أعم وأشمل من إرهاب المجموعات الإجرامية. ضرب محطات الكهرباء، المطارات، مستودعات الأغذية، المستشفيات، الجسور، والمناطق السكنية هو قمة الإرهاب الدولي الذي تمارسه إسرائيل، أما قتلها الأبرياء من الأطفال والنساء والشيوخ فيندرج ضمن جرائمها النازية التي ترتكب بمباركة الأمريكيين والمجتمع الدولي المتحضر، وهي جرائم لا يمكن تبريرها بخطف جنديين إسرائيليين أو بسقوط صواريخ محدودة التأثير على الأراضي المحتلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي