الحش

<a href="mailto:[email protected]">salehshahwan@hotmail.com</a>

"الحش" مصطلح من إنتاجنا الوطني, يعني النميمة أو الغيبة أو الخوض في سيرة الآخرين ومع ذلك فالحش ظاهرة عالمية موجودة في كل المجتمعات, في الشرق أو في الغرب وفي كل تجمع بشري صغر هذا التجمع أو كبر. فكلما اجتمع اثنان أو أكثر كانت مادة الحديث عن آخر أو آخرين.
الموظفون يحشون مديريهم, هؤلاء يحشون رؤساءهم أما الأصدقاء والصديقات والأقارب فهذا دأبهم، كذلك يفعل الأزواج بحق زوجاتهم والعكس صحيح, ويلذ للكتاب, الشعراء, الفنانين, الإعلاميين, المفكرين, المعلمين, الأطباء, المهندسين, الصيادلة, التجار, المحامين, الاقتصاديين, السياسيين وكل أصحاب المهن والتخصصات يلذ لهم النيل من زملائهم في "الكار".
الشعوب تحش حكوماتها, الحكومات تحش حكومات أخرى, الشعوب تحش غيرها من شعوب وتحش المدن, القرى, المؤسسات, والشركات مثيلاتها, فالحش المادة الأكثر استهلاكا في العالم يستأثر بنحو 80 في المائة من مجمل أحاديث البشر. حتى أنه يمكننا اعتبار معظم ما تنشره الصحف والمجلات وساحات الإنترنت ومحطات التلفزة والإذاعة نوعا من الحش, قد يكون رخيصا فضائحيا كما في صحافة التابلويد أو رصينا لاذعا من نوع تحليلات ومقالات صحيفة "الجاردين" أو محطة الـ B.B.C.
مع ذلك لم يكن الحش بالأساس خصلة ذميمة, كان وسيلة أجدادنا الغابرين لتطوير آلية "المؤانسة" ـ كما يقول "روبن دونيار" في مقالة له نشرتها منذ سنوات مجلة الثقافة العالمية بعنوان: لماذا نستمتع بالنميمة؟ ـ باعتبار "المؤانسة" نواة الاجتماع البشري, حيث الفرد بذاته لا يمكنه أن يعتني إلا بفرد وبالتالي لا يمكن أن يقوم برعاية غيره أو يقوم بنشاط آخر في الوقت نفسه, لذلك طور البشر المؤانسة إلى لغة تمكن الواحد منهم من التكلم مع عدد كبير من الأفراد كما تمكنه من أن يفعل هذا مرتحلا وأثناء الأكل وخلال العمل, أي أن اللغة تطورت كي تعين البشر على "الحش" الذي كان بالأساس معلومات عن مصادر الغذاء والماء والصيد ثم وسيلة لإدماج عدد أكبر من الأفراد في المجموعة, من خلال المعلومات عن أفراد آخرين غير موجودين, فالحديث مع شخص واحد أو أكثر يتيح معرفة قدر كبير من المعلومات عن أفراد آخرين وكيف يمكن أن تتفاعل معهم عندما تلقاهم وأنواع علاقاتهم بأطراف ثالثة, وهي معرفة مهمة تجعلنا ننسق علاقاتنا الاجتماعية داخل المجموعة بكفاءة أكثر.
ومع ذلك فالحش, مستويات وفنون, الأسوأ فيه الصادر عن حقد وضغينة, الذي يفتري على الآخرين, يلصق من الصفات والأفعال والأقوال ما ليس فيهم, يغطس في مستنقع الفحش والبذاءة, ينبش في الأعراض والذمم وهذا غالبا حش مفضوح قائله يكره الناجحين أو المحبوبين وصوره القرآن الكريم أبلغ تصوير في قوله تعالى: "أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه".
من مستويات الحش تلك التعليقات, الدعابات, الطُرف والممازحات التي يتقاذفها الأصحاب فيما بينهم في الغياب أو الحضور. ينطبق عليها: "ما زاد عن حده ينقلب إلى ضده) وكم دب الخراب وطال الفساد صداقات كانت عامرة بسبب تراكم ادعاء تقبل المزاح, إلى أن تحين ساعة ينفد فيها الصبر وتحترق روما على مَن فيها!!
الملاحم الخالدة وكثير من الأساطير والحكايات الشعبية يتربع الحش على عرشها, المسرح, السينما, العروض الهزلية, الشعر, القصص, والروايات والنقد فنون حش راق. ألسنا نموت من الضحك على قفشات الكوميديين كعادل إمام وعبد الحسين عبد الرضا وسمير غانم وغيرهم؟ ألسنا ننفعل مع أو ضد ونحن نشاهد فيلما سينمائيا يعري خسة أحد أبطاله أو يقوم بتصعيدها على سبيل السخرية؟ ألسنا نهرول إلى صفوف شعر "رديات" الشعراء الشعبيين وهم يتنابزون بالقوافي ونحفظ بسرعة تناهشهم فيما يصعب علينا حفظ غيره؟ أليست المحاكمات, أساليب النقد الأدبي, الفكري, السياسي, النقاشات والمحاورات أنواعا من الحش الراقي. تزعم تفكيك المقولات والنصوص والأطروحات وإبراز نقائصها وعيوبها بالدرجة الأولى بحجة "النقد الهادف البناء"؟!
لا تثريب علينا, إذاَ, من الحش, لأنه ملتصق بنا شئنا أم أبينا, فكلنا يخوض في سيرة الآخرين وادعاء النزاهة والعفة والطهارة من باب أننا لا نتحدث عن الآخرين مغالطة غير مقبولة, فلو صح ذلك لما كان العالم محيطا لا نهائيا من الثرثرات ولساد صمت المقابر. أرأيتم كيف نغرق نحن البشر في الحش ولا نغرق؟ نهجو ما نمارسه ثم لا نكف ولا نخجل؟ تُرى .. هل خطط أجدادنا الغابرون في الغابات لأن يلوك أحفادهم بالألسنة والأقلام والصوت والصورة سير بعضهم بعضا أم أن الغابة ما زالت قابعة فينا ونحن في أوج الحضارة؟!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي