إعمار لبنان وزعزعة سوق الأسهم
بعد أن اختفى المتشدقون بالعروبة، والباكون على حال الأمة، المؤيدون للعمليات المنفلتة التي لم تَحسِب لعواقب الأمور وويلات الدمار، وتواروا خلف شعاراتهم الثورية دون أن يقدموا الدعم الموعود، امتدت يد الملك عبد الله بن عبد العزيز نحو لبنان واللبنانيين، مقدمة الدعمين المالي والسياسي، ومجتهدة في البحث عن مخرج عاجل للأزمة اللبنانية الطاحنة. وعلى الرغم من أن السعودية حذرت من خطورة عملية اختطاف الجنديين الإسرائيليين وعواقبها غير المحسوبة، وطالبت المتسببين في إشعال فتيل الأزمة إلى تحمل تبعاتها، ما جعلها تعلن موقفا حازما وصريحا بعد أن أيقنت أن الجميع، بمن فيهم مشعلو الفتن، قد تركوا لبنان واللبنانيين لمواجهة مصيرهم المشؤوم، وأن الإسرائيليين تعمدوا ممارسة هوايتهم في القتل والتدمير وصبوا حمم غضبهم على لبنان البريء. بعد أن أصرت إسرائيل على تنفيذ استراتيجية العقاب الجماعي، والتدمير الشامل في لبنان، أطلقت السعودية بيانها الصريح الموجه للمجتمع الدولي وحذرت فيه من أنه "إذا سقط خيار السلام نتيجة الغطرسة الإسرائيلية فلن يبقى سوى خيار الحرب وعندها لا يعلم إلا الله ما ستشهده المنطقة من حروب ونزاعات لن يسلم من شرها أحد حتى الذين تدفعهم قوتهم العسكرية الآن إلى اللعب بالنار".
وتضمن البيان توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بتخصيص منحة 500 مليون دولار للشعب اللبناني لتكون نواة صندوق عربي دولي لإعمار لبنان، إضافة إلى إيداع مليار دولار في المصرف اللبناني المركزي دعما للاقتصاد اللبناني، وكذلك تخصيص منحة مقدارها 250 مليون دولار للشعب الفلسطيني لتكون بدورها نواة لصندوق عربي دولي لإعمار فلسطين. رئيس الحكومة اللبناني فؤاد السنيورة أعلن أن الدعم المالي السعودي سيؤدي إلى تعزيز احتياطات البنك المركزي من العملات الأجنبية، وسيساعد على تعزيز الاستقرار النقدي، وبدوره أشار البنك الدولي إلى أن الدعم المالي السعودي سيساعد كثيرا على استقرار الاقتصاد اللبناني والعملة الوطنية. بعد صدور البيان السعودي الصريح، أطلقت معظم الدول الفاعلة في المجتمع الدولي نداءاتها لوقف إطلاق النار الفوري، خلافا لمواقفها السابقة، ودعمت مشروع وقف إطلاق النار الفوري في المؤتمر الدولي المنعقد في روما، وكادت تصدر قرارا بهذا الشأن لولا تعنت الولايات المتحدة التي استبدلت بقرار وقف إطلاق النار "العمل فورا من أجل التوصل بشكل عاجل إلى وقف لإطلاق النار".
وزيرة الخارجية الأمريكية، كوندوليزا رايس، نوهت بالمساعدات السعودية السخية للبنان، وكذلك فعل المجتمع الدولي بأسره.
تعامل المجتمع الدولي سياسيا واقتصاديا، بإيجابية متناهية مع التصريحات السعودية الأخيرة، كما أن الاقتصاد اللبناني حصل على بعض الدعم الذي أعانه على المحافظة على استقرار الليرة اللبنانية وحمايتها من التدهور السريع جراء الحرب القائمة. الأثر الإيجابي الذي أحدثه الدعمان المالي والسياسي السعوديان على المستوى الدولي، واللبناني بشكل خاص، يقودنا إلى طرح السؤال الأهم وهو: كيف تعامل صناع سوق الأسهم السعودية مع بيان القيادة السعودية؟
مع الأسف الشديد، فقد تعامل صناع السوق بسلبية متناهية مع مجريات الأمور، واستغلوا الموقف لتخويف المتداولين في سوق الأسهم من خلال الضغط على الأسهم وإنزالها إلى النسب الدنيا، وإشاعة أجواء الحرب داخل السوق متخلين عن دورهم المأمول في دعم القرارات السياسية من خلال المحافظة على استقرار سوق المال الذي يعتبر أحد المؤشرات الرئيسية لتحديد ردود الأفعال الداخلية.
سلبية صناع السوق ومن خلفهم كبار المضاربين تم تفسيرها على أنها حلقة جديدة من حلقات الاستغلال الرأسمالية، التي تتجاهل جميع القيم مقابل تعظيم الأرباح وحماية الأموال المستثمرة، بل إنها ربما تجاوزت مرحلة الاستغلال إلى مرحلة الغش والتدليس وقلب الحقائق؛ فطالما أن الدعم السعودي للبنان، المنحة والوديعة اللتين لا تتجاوزان 1 في المائة من الدخل السعودي، أدى إلى استقرار الليرة، ودعم الاقتصاد اللبناني، فمن المفترض أن تتمتع سوق الأسهم السعودية بمستوى أعلى من الثقة، والثبات، والاستقرار بحكم تبعيتها للاقتصاد الداعم، وليس المستهدف بالدعم, وهو ما لم يحدث على أرض الواقع. الاستقرار المالي في لبنان، الذي يرزح تحت آلة الحرب الإسرائيلية، قابلته زعزعة متعمدة لسوق الأسهم السعودية، في غفلة تامة من الهيئات الرقابية والمالية، وهو ما ألحق الضرر المباشر بالاقتصاد الوطني، وبأربعة ملايين مواطن من متداولي الأسهم.
عودا على بدء، فالدعم السعودي النبيل للبنان أثبت أن القيادة السعودية تسعى دائما إلى إرساء قواعد الأمن والسلام، وتتحمل من أجل ذلك الأعباء المالية والسياسية، وهو ما يقدره لها المجتمع الدولي بأسره، إلا أن النظرة الداخلية القاصرة التي يتبناها البعض تحاول أن تقلب الحقائق، وتعمل على زعزعة سوق الأسهم، ما يستوجب تدخل الجهات المسؤولة من أجل إيقافها عند حدها وعدم السماح لها بتجاوز الحدود المسموحة، والعمل سويا من أجل إنهاء هذا النشاز.