القطار السعودي وحجب الرؤية

<a href="mailto:[email protected]">Hatoon-alfassi@columnist.com</a>

كانت تجربة السفر بالقطار السعودي تجربة فريدة ومهمة في وجهة نظري، فوسيلة المواصلات هذه النادرة في بلادنا كانت تحتاج أن نجربها حتى نتحدث عنها بالسلب أو الإيجاب. لطالما سمعنا عن تحديث العربات وعن قطع الجمال الطريق وحوادث القطار التي كانت تتكرر في بعض الأحيان بشكل لافت للنظر. كان القطار بالنسبة لي هو وسيلة المواصلات التي تستخدمها طالباتنا المقيمات في المنطقة الشرقية أو الأقرباء ممن يقطنون الشرقية ويزورون الرياض باستمرار، وبالنسبة لي هو الميناء الجاف الذي تصل إليه البضائع المشحونة من خارج المملكة والواصلة بالبحر من ميناء الدمام. وكانت أول زيارة لي إليه عند وصول أغراضي وكتبي المشحونة من بريطانيا بعد انتهاء فترة دراستي هناك، لكن لا أذكر آنذاك أني رأيت القطار نفسه أو أني كنت في محطة الركاب، كانت موقعاً آخر كله مستودعات وكلاب تدور حول الكراتين تثبت جدوى تمارينها الصباحية والمسائية.
لكن لقائي الأول والحقيقي مع القطار السعودي كان الشهر الماضي عند استقلالي له في رحلتي إلى الأحساء للمشاركة في لقاء الجمعية التاريخية العلمي التاسع. كان أولى مفاجآتي أن القطار كان منضبطاً على الساعة بشكل تحسده عليه الخطوط السعودية، ما أدى إلى أن تفوتني تلك الرحلة الظهرية، وأضطر إلى العودة أدراجي لأن الرحلة التالية ليست مقررة قبل خمس ساعات أخرى. كانت مفاجأة إيجابية أن نرى انضباطاً والتزاماً بالوقت كهذا لا نجده في أماكن كثيرة سواء في دوائرنا أو ارتباطاتنا أو وسائل مواصلاتنا الأخرى.
ولأكمل ملاحظاتي الإيجابية قبل أن أنتقل إلى ما دونها، أذكر أنه كان هناك رقي في تعامل موظفي التذاكر والبيع بحيث إني على الرغم من غضبي لفوات القطار وإلغاء التذكرة إلا أني لم أستطع إلا أن أحترم احترام الموظف لنفسه، الذي قام بعد عودتي الثانية إلى قطع التذكرة مباشرة وقبل أن أكمل وقوفي في الطابور. وكذلك كان موظفو الحقائب ومن بعد ذلك جابي التذاكر في القطار نفسه، فقد كان جميع الموظفين السعوديين على درجة عالية من التهذيب والتعاون.
والإطار العام للقطار محطة متسعة ونظيفة تنتشر فيها المقاعد والخدمات المختلفة بشكل مريح، وتنقسم الدرجات في القطار إلى ثلاث درجات، ثانية وأولى ورحاب، وحسب ما رأيته عند مروري بالعربات فقد كانت جميعها مريحة ونظيفة. إلا أن درجة الرحاب تمتاز عن بقية العربات بأن كل كرسي متصل به فيش كهرباء ما يسهل استخدام الكمبيوتر المحمول طوال الرحلة، وهذه نقطة عملية جداً، فضلاً عن وجود تلفاز بفيديو يعرض طوال الوقت بعض برامج كرتون الأطفال وإعصار كاترينا ومستر بين (يتكرر البرنامج نفسه في العودة).
وأخص ما يميز هذه الدرجة، ولا أدري إن كانت موجودة في بقية المقطورات، غرفة كاملة لتغيير الأطفال مرفقة بدورة مياه النساء. وهي ميزة في غاية الأهمية، وقد أشرت إليها من قبل في تحديات سفر الأم، وهي تحسب للقطار السعودي. ثم هناك عربة المشروبات التي كانت تدور صعودا ًوهبوطاً بالماء والقهوة الفورية والشاي اللبتون وأكياس البطاطس والحلويات والشوكولا المختلفة. أعتقد أن هيئة السكة الحديد تحتاج إلى أن تطور خدمات هذه العربة بقهوة حقيقية وخيارات متنوعة للشاي أو للمأكولات الخفيفة.
وعلى الرغم من تميز التجربة إلا أن هناك عددا من الملاحظات التي آمل أن تأخذها هيئة السكة الحديد بعين الاعتبار خاصة وأنها ملاحظات تخص قطارنا فقط من بين قطارات العالم. أولاها أن التذاكر التي لا تستخدم في وقتها لا تُعوض ويخسرها الراكب، وهو قانون غريب غير معروف في عرف أي سكة حديد في العالم، لا سيما إن كانت التذكرة المدفوعة هي تذكرة كاملة وليس عليها تخفيض أو عرض خاص. فمن الناحية الشرعية والقانونية هذا أمر غير جائز طالما أن التذكرة لم تستعمل. ففي أي خطوط حديدية في العالم تبقى التذكرة صالحة للاستخدام خمس سنوات على أقل تقدير ثم تجدد بطلب وهكذا، فحق الراكب لا يضيع. وإن كانت هذه طريقة تحاول هيئة سكة الحديد السعودية أن تحافظ بها على نسبة ركوب معينة فهي بهذه الطريقة تجعل الركاب يترددون في قص التذاكر أصلاً لخوفهم من فقدانهم لأموالهم تحت أي ظرف طارئ.
والناحية الثانية التي استغربتها في رحلة القطار هذه هي تثليج شبابيك درجة الرحاب بالكامل. لقد كانت صدمة كبيرة لي أن تكون أول تجربة لأرى فيها أرض بلادي في هذه المناطق وأنا أمر عليها بالقطار في صحبة ابني الصغير الذي كنت أتطلع لأجذب انتباهه إلى منظر الصحراء والدهناء والجمال وغيرها فإذ بي أجد نفسي في مقطورة أشبه بصندوق أو قفص وليس أمامي سوى هذا التلفاز المعلق الذي يعرض لنا إعصار كاترينا. ما هي الحكمة؟ لا أدري. كان بعض الموظفين ممن يجتهدون يقولون ماذا تريدين أن ترين؟ كلها صحراء في صحراء. أقول ومن هو الذي من حقه أن يقرر ما أرى وما لا أرى؟ أم أن هيئة السكة الحديد حريصة على ألا تخدش مناظر بلادي الطبيعية خيالي عنها؟ آمل أن تقوم الهيئة بتصحيح هذا الخلل في مقطوراتها الخاصة بهذه الدرجة. وقد أدى هذا القصور إلى تفويت رؤية أي من محطات الطريق، بل إني عندما وصلت الهفوف لم أدر أين أنا وما إذا كنت قد وصلت فعلاً نظراً لأن سماعات تلك الدرجة كانت تعاني من خلل في الصوت لم يجعلنا نسمع ما يقولون وحدث أن اختفى كل الموظفين في تلك اللحظة دون أن أتمكن من سؤالهم، حتى رأيت بعض زملاء الجمعية ينزلون في تلك المحطة فنزلت.
كما آمل أن تقوم الهيئة بإعادة تأهيل موظفي هاتف السكة الحديد. فهذا الهاتف، هاتف الحجز الذي وجدت رقمه الفريد مشغولاً طول الوقت، كان ينقطع بي بعد أن يخرج لي تسجيل يقول إن الموظف مشغول، وفي آخر المطاف وعندما رد أجده يطلب مني إعادة الاتصال لأن الخط غير سليم، بينما أنا أسمعه جيداً، وفي النهاية وقبل أن أنهي كلامي أجده يغلق السماعة في وجهي. كانت صدمة حضارية من الدرجة الأولى فماذا تفعل أمام تصرف من هذا القبيل، وصلت إلى المحطة أبحث عن مديرها فقالوا إنه غير موجود الآن. وتعجبت، ألا يوجد نائب يقوم مقامه؟ كان هذا أحد التساؤلات.
وأقول، طالما أنه ليس لدينا سوى هذا الخط الفريد، فحبذا أن ترفع عدد الرحلات فتكون كل ساعة بدل أن يضطر المسافرون إلى التعطل لعدد طويل من الساعات بين كل رحلة وأخرى.
ونظراً لأني أكملت رحلتي إلى بقيق حيث زرت إحدى قريباتي هناك، وكانت تجربة أخرى مفيدة يستشعر فيها الإنسان جمال التنقل بالقطار وميزته التي يبز بها السيارة أو الطيارة، وهي السهولة والعملية في الوصول إلى قلب المدينة مباشرة. فقد لاحظت عدم تجهيز المحطة، وربما بقية المحطات كذلك، لذوي الاحتياجات الخاصة أو من يسافرون ومعهم عربة طفل كما هي حالتي التي كنت أحتاج فيها لأصل إلى القطار أن أنزل سلالم وأطلع سلالم لأصل إلى الجهة الأخرى، هذا بينما موظفو القطار يتفرجون ويتندرون، وهو موقف لم أجده حضارياً بأي شكل من الأشكال.
أما الملاحظة الأخيرة فقد كانت في عملية التفتيش النسائي التي من الواضح أنها تحتاج إلى كثير من التدريب والتأهيل، فقد قامت الموظفة بعد دخولي غرفتها بتفتيشي شخصياً ثم تفتيش حقيبة يدي بالتفاصيل المملة على الرغم من أني ذكرت لها أنها مرت في جهاز الكشف عند الدخول، فلا موظف الاستقبال طلب مني أن أبقي حقيبتي لديه ولا هي اقترحت أن تدخل في الجهاز مرة أخرى لاختصار الوقت، والأنكى من ذلك أني عندما تأخرت ولحقتني ابنة عمي التي أتت لتودعني إذ بها تتسلمها هي الأخرى تفتشها ثم سحبت حقيبة يدها كذلك وأخذت تفتح كل علبة بها وتبحث داخلها ونحن نقول لها إنها ليست مسافرة، دون جدوى. فكان أن تأخرنا أكثر وأكثر بل كاد القطار يفوتنا.
وبين الرياض وبقيق كان استقبال أهل الحسا وكرم الضيافة التي أتحفونا بها تجعلنا لا نستكثر أي وسيلة مواصلات توصلنا إليهم ولو امتدت بنا الساعات. وكانت إقامة تتناوب فيها الجلسات العلمية في الصباح وحفلات العشاء التي يتنافس عليها أعيان الحسا سواء رجالهم أو نسائهم أو حتى طالباتنا من خريجات جامعة الملك سعود ليقوموا بحق الضيافة فينا، والزيارات المختلفة لمواقع المنطقة الأثرية من مسجد جواثا إلى قرية البطالية إلى قصر ابراهيم باشا إلى مسجد الجبور إلى الموقع الطبيعي الخلاب، جبل قارة، فنعم الدار وأهلها هي.
*ملاحظة: آمل من القراء من متابعي موضوع تسمية شوارع الرياض الرجوع لعدد "الاقتصادية" السبت الماضي، صفحة "صوت الناس" ليروا تعليقاتهم واقتراحاتهم المفيدة، التي نشرت هناك.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي