فرنسا والجزائر والإسلام .. الوسطية والتوازن هما الحل
أعادت الزيارة "الصحية" التي قام بها الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة إلى فرنسا حيث أجرى هناك عملية جراحية حساسة أوشك على الشفاء منها، الحديث من جديد حول طبيعة العلاقات الفرنسية – الجزائرية خصوصاً, وتداخلها مع علاقة فرنسا بالقضايا الإسلامية وبخاصة تلك المرتبطة بالحركات الإسلامية بمختلف أنواعها. ولا شك أن العلاقات المركبة التاريخية والثقافية التي ربطت فرنسا بالجزائر منذ احتلالها عام 1830 حتى استقلالها عام 1962 ثم خلال مراحل ما بعد الاستقلال حتى اليوم، وضعت الجزائر في موقع محوري فيما يمكن تسميته "السياسة الإسلامية" لفرنسا.
فعلى الصعيد الداخلي الفرنسي يمثل المسلمون الديانة الثانية بعد الكاثوليك وبأعداد تراوح تقديرها بين 2.5 و6 ملايين شخص منهم أكثر من مليون ونصف مليون من حاملي الجنسية الفرنسية، إضافة إلى أن المسلمين يمثلون نحو 60 في المائة من المهاجرين الأجانب في فرنسا والمقدر عددهم بنحو أربعة ملايين شخص. ومن بين هؤلاء المسلمين في فرنسا، سواء من حاملي جنسيتها أو المهاجرين إليها، يمثل الجزائريون نحو نصف عددهم. وقد اختلطت مشكلات البطالة بين الفرنسيين ومدى مسؤولية المهاجرين, والمسلمون تحديداً منهم, عنها مع مشكلات دمج الحاصلين منهم حديثاً على الجنسية في المجتمع الفرنسي، لتتحول مع صعود الجبهة الإسلامية للإنقاذ في الجزائر في الانتخابات المحلية في صيف 1991 ثم اكتساحها الجولة الأولى للانتخابات التشريعية واندلاع الأزمة في الجزائر إلى تحد مباشر للأمن القومي الفرنسي الذي راح المسؤولون عنه يهتزون أمام تصاعد حجم الظاهرة الإسلامية في فرنسا وتعرض العاصمة ومدن فرنسية أخرى لبعض الهجمات الإرهابية التي بدأت في أيلول (سبتمبر) 1986 على أيدي عناصر ذات صلة بإيران ثم بعد ذلك على أيدي عناصر جزائرية بعد اندلاع الأزمة عام 1992.
أما على الصعيد الخارجي فقد كان لفرنسا أيضاً اهتمامها المبكر بالظاهرة الإسلامية, خاصة التيارات العنيفة منها منذ نهاية السبعينيات. وقد تبلور ذلك الاهتمام على الصعيدين الإعلامي والأكاديمي، حيث عرفت مختلف وسائل الإعلام والجامعات ومراكز البحوث الفرنسية أعداداً كبيرة من المتخصصين في شأن الجماعات الإسلامية العنيفة والمتشددة أضحى بعضهم ذا سمعة وتأثير دوليين كبيرين. وعادت باريس مرة أخرى مع ظهور الجبهة الإسلامية للإنقاذ للاهتمام المكثف بما يحدث على الصعيد الإسلامي بعيداً عن أراضيها، أي في الجزائر، وذلك تخوفاً من أن يهدد ذلك أوضاعها الداخلية السابق شرحها ومصالحها الخارجية الكبرى في الجزائر. فالجزائر بالنسبة إلى فرنسا هي حجر الزاوية لمصالحها في مجالها الحيوي الخارجي بعيداً عن القارة الأوروبية، وهو حوض البحر المتوسط الذي يحقق لها من ناحية الوجود في منطقتي نفوذها التقليديتين، أي شمال إفريقيا والشرق الأوسط، ويتيح لها من ناحية ثانية صياغة مجال نفوذ واسع توازن به مجال النفوذ الألماني في وسط أوروبا وشرقيها، فضلاً عن ارتباطه المباشر بأبرز قضاياها الداخلية ذات البعد الخارجي، أي الهجرة التي يأتي معظمها من جنوب المتوسط.
وكما كان الحال قبل هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001، فقد انقسم رجال السياسة والأمن والثقافة في فرنسا بعدها إلى تيارين رئيسيين تجاه الموضوع الإسلامي في ارتباطه بالجزائر، أحدهما استئصالي يرى ضرورة التخلص التام من التيارات الإسلامية كافة بغض النظر عن اعتدالها أو تشددها، والآخر باحث عن حلول وسطي مع التيارات الإسلامية الوسطى والمعتدلة الأخرى دون أن يؤثر ذلك في موقفه المتشدد تجاه التيارات العنيفة والإرهابية. وقد ظل حاضراً في فرنسا وموزعاً بين هذين التيارين, تيار آخر ذو وجهة مختلفة يحتفظ بتصورات عن الجزائر ومعها الإسلام غير بعيدة عن ماضي فرنسا الاستعماري فيها، حيث لا يزال يرى فيها أرضاً فرنسية أو شبه ذلك, نجح سكانها بغير حق في فصلها عن فرنسا وهو السبب الرئيسي في تدهور أوضاعها ووصولها إلى ما هي عليه اليوم سياسياً واقتصادياً وأمنياً. وقد كان لتلك التيارات الثلاثة تأثيراتها المباشرة وغير المباشرة في العلاقات الفرنسية ـ الجزائرية في مراحلها المختلفة, خاصة في أثناء أزمتها الكبرى وبعد انتهائها.
فالجناح الفرنسي الأول، أو الاستئصالي، دعم مثيله في الجزائر سواء مادياً أو سياسياً أو فنياً فضلاً عن الصمت والتواطؤ عن بعض التجاوزات الكبرى التي قام بها في أثناء الأزمة الجزائرية الكبرى. أما الجناح الوسطي الفرنسي في الدولة الفرنسية وخارجها فقد قام خلال الأزمة نفسها بتقديم صور مختلفة من الدعم السياسي والمعنوي ليس فقط لنظيره الجزائري عبر الإعلام والمنظمات الأهلية الفرنسية والدولية، ولكن أيضاً وفي أحيان أخرى لبعض التجمعات والحركات الإسلامية السياسية الجزائرية غير المتشددة سواء في الجزائر نفسها أو لفروعها وممثليها في فرنسا والخارج عموماً. أما التيار الثالث، أو الاستعماري، فقد رأى في الأزمة الجزائرية فرصة حقيقية لتأكيد مقولاته حول خطأ فصل الجزائر عن فرنسا وسعى من خلالها إلى دفع الجزائر إلى أكبر مساحة ممكنة من الانهيار وإلى "الانتقام" التاريخي ممن يرى أنهم المسؤولون عن ذلك الخطأ. ولا شك أن جبهة التحرير الوطني والجيش الوطني الشعبي ظلا في نظر هذا التيار هما المسؤولين الوحيدين اللذين يجب أن تتوجه إليهما سهام ذلك الانتقام، وهو ما حدث بالفعل بصور عديدة خلال الأزمة الكبرى.
ولا شك أن نجاح الرئيس بوتفليقة في العبور بالجزائر من أزمتها الكبرى الخطيرة قد مثل انتصاراً كبيراً للجناح الوسطي سواء في الجزائر نفسها أو الأوساط الفرنسية المهتمة بالشأن الجزائري والإسلامي. فما قامت به الدولة الجزائرية حتى الآن من سياسات وإجراءات لتحقيق السلم الأهلي والوئام في الجزائر قد أضعف كثيراً من قوة الجناح الاستئصالي في بلاده وفي فرنسا المهتمة بالجزائر على حد سواء، كما أن انتماء الرئيس بوتفليقة التاريخي إلى جبهة التحرير الوطني الجزائرية قد أسهم في إضعاف أكثر لقوة الجناح الاستعماري في أوساط الحكم والنخبة الفرنسية فيما يخص الجزائر. إن الدرس الواضح من التجربة الجزائرية الأخيرة في معالجة الأزمة الكبرى هو أنه بإمكان سياسات متوازنة ورشيدة تقوم بها دول وحكومات عربية أو إسلامية أن تؤثر مباشرة في سياسات دول كبرى تجاهها وتدفع بها نحو مزيد من الوسطية والتوازن، وهو حال السياسة الفرنسية الحالية تجاه الجزائر ومعظم القضايا الإسلامية.