البحث العلمي في الجزيرة العربية بيننا وبين الغرب

شهد تاريخ الجزيرة العربية القديم اهتماماً ملحوظاً غير معتاد في الأسبوعين الماضيين، تمثل في انعقاد مؤتمرين دوليين واحداً تلو الآخر أولهما في دومة الجندل والثاني في بيروت ويعنيان بتاريخ الجزيرة العربية قبل الإسلام. ومع أن كلا المؤتمرين كان عالمياً إلا أن الأول, المعقود في السعودية كان عالمياً حسب الخصوصية السعودية بجعله للرجال فقط ولذلك ليس لدي الكثير للتعليق عليه، فلم أشهده ولا أعرف تفاصيله إلا من خلال ما سمعته من بعض الزملاء المشاركين ومنهم مشرفي السابق الإيرلندي، الذي أمضى وقتاً ممتعاً في الجوف بين آثار ملكات العرب. أما مؤتمر بيروت فقد كان التمثيل النسائي السعودي فيه 3 إلى 1، باعتبار أن كل دولة يمثلها أربعة باحثين وباحثات.

وعلى الرغم من أن مؤتمر "اقتصاد ومجتمع الجزيرة العربية قبل الإسلام", الذي نظمه معهد الدراسات الشرقية الألماني ببيروت بالتعاون مع الجامعة الأمريكية عقد في أجواء غير عادية حيث افتتح بالحادث الشنيع الذي اغتيل فيه الإعلامي والسياسي اللبناني جبران تويني فجعلنا نمضي جلسات المؤتمر في قاعة غير مكتملة التجهيزات الفنية نظراً لإضراب كثير من القطاعات ومنها الجامعة الأمريكية، إلا أن الأوراق التي قدمت كانت على درجة كبيرة من الأهمية, التي تناولت أحدث الاكتشافات والنظريات في مجال تنقيبات الجزيرة العربية الآثارية ودلالاتها الاقتصادية والاجتماعية والقانونية والدينية، وإن كان جل هذه التنقيبات يركز على جنوب الجزيرة.

كان من أهم ملامح هذا المؤتمر تخصيص جلسة لاستشراف مستقبل الدراسات الآثارية والتاريخية في الجزيرة العربية. وكما نعلم فإن السعودية خطت خطوات كبيرة في السنوات الأخيرة نحو فتح مجال التنقيب والمسح الأثري للبعثات الأجنبية بعد أن كان محظوراً عليها ذلك, فهناك فريق فرنسي يعمل لمسح مدائن صالح وفريق ياباني يعمل على نجران وآخر ألماني ينقب في تيماء, هذا فضلاً عن الاستعانة المستمرة من قبل المتحف الوطني بمختصين في المتاحف من متحف سميثونيان في واشنطن لأغراض بحثية مختلفة. بالإَضافة إلى إضفاء اهتمام متزايد بالآثار على المستوى الهيكلي من خلال ضم وكالة الآثار والمتاحف إلى الهيئة العليا للسياحة. وإن كانت لدي ملاحظات على هذه التغييرات التي ربطت بين السياحة والتي هي جهة تجارية بالدرجة الأولى والآثار التي هي جهة ثقافية بما يحمله هذا من تضارب في المصالح، إلا أنه ربما نكون مقبلين على حل لمشكلات التمويل التي كانت تشكو منها دوماً وكالة الآثار سابقاً عندما كانت جزءاً من وزارة المعارف (التربية والتعليم حالياً).

وكانت فرصة جيدة جداً من خلال هذا المؤتمر وهذه الجلسة أن أركز على قضية إشراك الباحثين والطلبة المحليين في عمل البعثات الأجنبية. ربما لم أرد أن أصور الأمر أمامهم وكأنه استغلال من جهة الأجانب لبلادنا ومواقعنا لتكون حقلاً لاختبارات وإنجازات طلبتهم وباحثيهم التي يأخذون عليها درجاتهم العلمية من أقصى المعمورة، ولكني وضعتها بشكل أننا نريد أن يكون هناك تبادل في المنافع فكما أنكم تستفيدون فلا بد أن تفيدوا المختصين المحليين والجيل الجديد بالتجارب الجديدة وآخر المستجدات في علوم الآثار والتنقيب.

ولعل المقصود من هذه الملاحظات ربما لم يكن البعثات الأجنبية نفسها، وإنما اتفاقياتنا التي نضعها ونعقدها بين جهاتنا كوكالة الآثار أو هيئة السياحة (لا أدري ما هي الجهة المختصة الآن) والبعثات الأجنبية، إذ ينبغي أن تنصّ في اتفاقياتها وقبول دخولها وعمل هذه البعثات في أراضينا أن تتبع شروطاً تشمل تدريب عدد معين من الطلبة والطالبات في حقل الآثار، الترميم، المسح، قراءة النقوش وغيرها من التخصصات المرتبطة بهذه البعثات. وكذلك تشمل نشراً دورياً للأبحاث والمسوحات باللغة العربية ولغة الباحثين يشترك فيها الباحثون السعوديون. كما يشترط على البعثة تقديم عدد من المحاضرات في بعض الجامعات السعودية ووكالة الآثار تستضيف المختصين من الأساتذة والطلبة نساء ورجالاً ليطلعوا على النتائج البحثية. وحبذا لو يُقتدى بالنموذج الأردني في التعامل مع البعثات الأجنبية التي تضع شروطاً من هذا النوع فتنعكس بالفائدة على الأردنيين, بالإضافة إلى البعثات الأجنبية نفسها.

وكانت التوصية الرئيسة التي تم التجاوب معها في هذا المؤتمر هي استخدام اللغة العربية لغة رسمية في المؤتمرات الدولية التي تخص الجزيرة العربية ولغة رسمية في مطبوعات البحوث كذلك، وهو ما لم يكن قائماً لسوء الحظ من قبل. فأحد أهم المؤتمرات الخاصة بتاريخ الجزيرة العربية Seminar for Arabian Studies , الذي يعقد سنوياً في بريطانيا منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً لا يسمح بتقديم أوراقه باللغة العربية أو نشرها بينما يمتد التسامح مع اللغة الإنجليزية إلى اللغتين الفرنسية والألمانية، مما يشكل بالطبع نوعاً من التناقض كما هو واضح. وربما أن السبب يكمن في أن المؤسسين وغالبية المختصين والمشتركين في هذا المؤتمر هم من الغربيين والمستشرقين. وعلى الرغم من أن عددا منهم يتحدث العربية ولكن كان هناك دوماً رفض لأن تكون اللغة العربية عضوا ًفي هذه الجوقة, لذا كانت التوصية من هذا المؤتمر مهمة وكان التجاوب مهماً كذلك, لاسيما وأن الزميل السعودي قدم ورقته باللغة العربية واضطر المستشرقون لطرح الأسئلة بالعربية لأول مرة. فكان الإعلان في نهاية المؤتمر أن نشر هذه الأبحاث سوف يكون بترجمتها كلها إلى اللغة العربية.

إن الملاحظة المهمة المرتبطة بالمشاركة في مؤتمرات متخصصة هي الأثر الذي ينعكس من وجودنا في أروقتها, فمن المهم ضرورة التواجد المستمر بالبحث العلمي الجاد وبالثقة في النفس، ولا بد من السعي للوصول إلى مجالس إدارة هذه المؤتمرات أو المؤسسات التي تديرها حتى يمكننا المشاركة في وضع القرارات الخاصة بهذه الدراسات وفي سيرها واتجاهاتها بل وببعض نتائجها كذلك.

* كاتبة ومؤرخة سعودية
* [email protected]

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي