منظمة التجارة وإرادة التنفيـذ

يعتبر انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية وما حققه الفريق المفاوض من إنجازات تتناسب ومتطلبات التنمية المرحلية في المملكة ودورها الريادي في العالم الإسلامي، وانسجام ذلك مع العديد من التوجهات السياسية والاجتماعية إنجازا يشكر عليه جميع العاملين على إنجازه دون تحديد لشخص واحد منهم, وإنما لكل من صرف وقتا وجهدا في تحقيق ذلك، خصوصاً إذا عرفنا المدة الزمنية التي استغرقتها المفاوضات وعدد الدول التي تم الاجتماع والتفاوض معها بشكل ثنائي أو جماعي.

لقد عبر معالي وزير الصناعة والتجارة بشكل مباشر وصريح عن مختلف مراحل المفاوضات، وأكد على صعوبتها في مراحل عديدة وأوضح المنجزات التي تحققت للمملكة منها أثناء سير المفاوضات وما تم الاتفاق عليه؛ كما أشار إلى أهمية المرحلة المقبلة. كان الحديث مع معاليه والزميلين العزيزين الدكتور فواز العلمي والأستاذ صالح الحصيني في لقاء جريدة "الاقتصادية" حديثا لا تنقصه الصراحة أو الشفافية أو الرغبة في الاستماع للآخر والحوار الموضوعي الذي يرقى إلى مستوى الحدث ومتطلبات المرحلة المقبلة، لقد كنت استمع إلى الحوار وهدوء الطرح وأتساءل بيني وبين نفسي كيف استمرت المفاوضات أكثر من عشر سنوات بين أخذ ورد ثم في فترة وجيزة وجدنا أن الموافقة أخذت مجراها بشكل سلس وسريع، وما هي الدروس التي يمكن استنباطها من مثل هذه التجربة الثرية في الكر والفر والحوار والمناقشات المستمرة؟ وماذا يجب أن يعمل في سبيل استمرار النجاح وتحقيق متطلبات الانضمام وتفعيل دور مختلف الشركاء في القطاعين الحكومي والخاص وبلورة ذلك بالعديد من الإنجازات التي تتطلب تذليل مختلف الصعاب التي تواجه التنمية في المملكة.

لعل الاستنباط المباشر الأول الذي يمكن الإشارة إليه هو التدخل السياسي للقيادة السعودية، المتمثل في التوجيه الكريم لخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله عندما كان وليا للعهد، حين وجه بأمر سام للجنة المفاوضات بإنهاء موضوع الانضمام واستعداده الشخصي في تذليل كل الصعاب والعقبات التي تواجه هذه الرغبة، ومنها قيامه شخصياً بزيارة الولايات المتحدة الأمريكية وإنهاء ملاحظات الوفد الأمريكي وأخذ موافقة الولايات المتحدة الأمريكية على الانضمام، واتصالاته المباشرة بالعديد من رؤساء الدول الأوروبية لإنهاء متطلبات تلك الدول لانضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية، وبانتهاء مثل هذه المواقف أصبح الطريق ممهدا لإنهاء الانضمام، هذا في الجانب الدولي, أما الاستنباط الثاني ففي الجانب المحلي وحتى يتم الانتهاء من مراجعة الوثيقة من مختلف الهيئات والمجالس المعنية تم وضع جدول زمني محدد بالأيام لانهائها بحيث يتم التوقيع على الوثيقة قبل اجتماعات المنظمة في شهر ديسمبر لعام ألفين وخمسة، وهذا ما حدث حيث تم إنهاء الوثيقة من مختلف الهيئات بما فيها مجلس الوزراء ومجلس الشورى حسب التواريخ المحددة.

إن تفعيل الدور السياسي وتحقيق إرادة التنفيذ ووضع التواريخ المحددة لإنهاء الموضوع هو جل ما نحتاج إليه في المرحلة المقبلة لإنهاء العديد من التوجهات والأنظمة التي نحتاج إليها لجعل المملكة من الدول الرائدة والمتميزة في مجالات التنمية المختلفة؛ وكما نعرف جميعاً أن هناك العديد من اللجان التي تأخذ السنوات الطوال في الدراسة والتمحيص في قضايا تهم اقتصاد البلد ومستقبله دون مراعاة لأهمية الوقت والمخُرج المرجو من تلك اللجان، ولهذا فإن وضع وقت زمني لكل لجنة تقوم بأداء عمل يهم الصالح العام هو أمر ضروري، ولعل في تجربة انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية خير دليل.

إن تحديات المرحلة المقبلة وتأكيد دور المملكة الدولي في العديد من المحافل الدولية والأصعدة العالمية يتطلب التغيير الجذري في المدرسة القديمة التي يقوم عملها على التسويف وكثرة اللجان وقلة الإنتاج، يتهرب العديد من مسؤوليها عن اتخاذ القرار خوفا من المساءلة والبحث عن لجنة أو هيئة لتقوم بإنجاز العمل المطلوب وسرعة إنجازه فتأخذ هذه اللجنة أو تلك السنوات الطوال في الأخذ والرد وكثرة الاجتماعات مع قلة الإنجاز ثم يموت الموضوع وتذهب أهميته، وعندما يصدر القرار يكون القطار قد غادر المحطة، مما يتطلب عقد اجتماعات أخرى للجان أخرى للدراسة والمماطلة, ثم عندما ينتهي الموضوع وإذا بالقطار قد غادر المحطة الأخرى، ويصبح حالنا لهثاً خلف القطار الذي لن يقف أبدا للمتواطئين والمماطلين وأشباههم.

إن إرادة التنفيذ ووضع البرامج الزمنية المحددة بالوقت لإنهاء الأنظمة والأعمال ومتابعة التنفيذ ووجود الرقابة المباشرة والصارمة للتأكد من تحقيق الإنجاز وتطويره خدمة لاقتصاد المملكة، وبما ينعكس بالخير على أبنائها والمقيمين على أرضها وعدم التهاون في ذلك مهما بلغ منصب المسؤول عن العمل أو أهميته أو صلته الاجتماعية، لأن متطلبات وتحديات المستقبل لم ولن تدع لنا مجالا للتقاعس أو المماطلة أو التسويف؛ فالدول تتسابق لتطوير أعمالها واقتصادها والمحافظة على وجودها في سوق المنافسة الشرس الذي يعتمد على ارتفاع الجودة وانخفاض التكلفة.
إن الاقتصاد والنمو الاقتصادي في مختلف الصناعات والخدمات والسلع هو محور التنافس المقيل والانضمام لمنظمة التجارة العالمية هو الباب المساعد على ذلك، ولكن ليس المسار الضامن له خصوصاً مع ازدياد الدول المنضمة للمنظمة وإحساس كل دولة منها بأهمية المرحلة وأهمية التطوير والتحديث لمختلف الأنظمة والتشريعات وتفعيل دور القطاعات الإنتاجية والشراكة الحقيقية بين القطاعات الحكومية والخاصة والأهلية بما يضمن التطوير المستمر، كما أن إعطاء مساحة أوسع للامركزية في التطوير واستقطاب الاستثمارات لمختلف المناطق بما تتفق وإمكانيات كل منطقة والميزة النسبية بها سوف يساعد على تسريع عجلة التنمية ولنا في التجارب المحيطة خير دليل على ذلك.

وأخيراً شكراً لكل من شارك في تحقيق انضمام المملكة لمنظمة التجارة العالمية وشكرنا لهم هو بالعمل على استمرار مثل هذه النجاحات الوطنية وتحقيق أهدافها.

وقفــــة تأمـــل:
"إذا ضيقت أمراً ضاق جـــــــداً
وإن هونت ما قد عز هانــــــــا
فلا تهلك بشيء فات يأســــــــاً
فكم أمر تصعب ثم لانــــــــــا
سأصبر عن رفيقي إن جفاني
على كل الأذى إلا الهوانــــــــا"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي