صفحة ناصعة من تاريخ العرب
في لعبة صنع الصورة على المستوى العالمي يعاني العرب معاناة شديدة، تارة بسبب تصرفاتهم والأكثر بسبب تمكن أعدائهم، فما زالت صورة العربي هي ذلك الإنسان الجشع المحب للشهوات الذي يكره الآخرين ويمارس القسوة العشوائية ويعمل على تقويض الآخرين الذين يكرههم بكل ما لديه من إمكانات. ولتعميق هذه الصورة يعمل أعداء العرب على محورين:
الأول: تشويه التاريخ العربي والإسلامي وإظهار قرونه الزاهية بأنها كانت حقبا سوداء.
الثاني: انتقاء واختيار السلبيات في حياتنا المعاصرة والترويج لها عبر وسائل مختلفة ''الكتاب، الفيلم، المقال، والحديث''، أما أصوات المنصفين فهي تتبخر في الهواء وتضيع أدراج الرياح. ومن هؤلاء المنصفين أشخاص يعتبرون في عداد الأعداء والخصوم، فقد نُقل عن الملك شارل الخامس ملك إسبانيا في القرن الـ 16 وبعد سقوط الأندلس في أيدي الفرنجة بعقدين، أنه قال للمهندسين الإسبان الذين حولوا مسجد قرطبة الكبير إلى كنيسة كاثوليكية: ''ماذا فعلتم أيها التعساء، لقد دمرتم شيئا لا مثيل له في أي مكان، لتبنوا شيئا عاديا متوافرا في كل مكان''.
وكان الرجل، وهو الخصم والعدو، على حق، فرغم كل جهود التشويه في المسجد، ورغم مرور خمسة قرون على هذه الجريمة إلا أن الإسبان ما زالوا يقولون ''ها هو المسجد mezquita''. وقد ضاعت الكنيسة الكاثوليكية أمام أعمدة المسجد الشاهقة الشامخة وأمام صخور الجرانيت والرخام الأخضر والأبيض والذهبي وأمام الأقواس الجميلة والقباب الرائعة على شكل خلايا النحل بأحجارها البرتقالية والبيضاء، وحتى ترصيع المذبح الخاص بالكنيسة بالذهب لم يفلح في أن يسلب الناظرين من رؤية المحراب الثماني بزخرفه الأسطوري.
وهذا المسجد العظيم يفتح صفحة مضيئة في التاريخ العربي والإسلامي بطلها عبد الرحمن الداخل أو عبد الرحمن بن معاوية أو صقر قريش. إن هذه الشخصية الفذة كفيلة بأن تسخر لها السينما مالا ووقتا لعرض بعض من صفاتها التي ميزت الشخصية العربية الحقيقية. وأكاد أرى في قصته ما عرفناه من قصة سيدنا يوسف، عليه السلام، وذلك التشابه بين بدايات حافلة بالمعاناة ووسط مليء بالصبر والإنجاز، وخاتمة رائعة تؤكد أن الله، جل وعلا، لا يضيع أجر من أحسن عملا.
كانت الدولة العباسية تحت قيادة أبي جعفر المنصور الخليفة الثاني الذي خلف أخاه أبو عبد الله السفاح مؤسس الدولة العباسية، تبحث عن فلول الأمويين، ونجح الأمير عبد الرحمن بن معاوية وشقيق له في الاختباء لدى بعض البدو بالقرب من شاطئ الفرات، ولكن الوشاة أبلغوا السلطة في بغداد بمكانهم، وعندما وصل الجنود شعر عبد الرحمن بهم وأيقظ شقيقه وألقيا بنفسيهما في مياه نهر الفرات.
ولأن شقيق عبد الرحمن كان سباحا متواضعا صدّق وعود مطارديه بأنهم سيعفون عنه، فعاد أدراجه، ليتعرض لخيانة وليراه عبد الرحمن يُمزّق بالسيوف، انطلق عبد الرحمن إلى فلسطين، حيث تعرف إلى مرافقه بدر وتوجها عبر الساحل الإفريقي الشمالي إلى الأندلس وهناك كان البربر والعرب يعانون من الصراعات الداخلية، خاصة بين عرب الشمال ''السوريين'' وعرب الجنوب ''اليمنيين'' واتفق على أن يتولى شمالي لمدة عام يليه جنوبي في العام التالي، ولكن يوسف الفهري وهو أحد أحفاد عقبة بن نافع رفض تسليم الحكم بعد انتهاء فترته، وبدأ الصراع المرير والحرب الأهلية.
أما البربر فكانوا يشكون من أنهم يعاملون كمواطني درجة ثانية، وأن العرب حصلوا على أجود الأراضي والمدن والمواقع وتركوا للبربر الفيافي والصحارى والجبال القاحلة، ووقف بربر شمال إفريقيا مع أشقائهم في الأندلس، وكاد العرب أن يتعرضوا للإفناء الكامل لولا وصول جيش من سورية أنقذهم، وبعد وصول عبد الرحمن اجتمع الناس حوله وحاول يوسف الفهري شراءه وفشل وقاتله وانتصر عبد الرحمن الذي اختار بغلا عجوزا يقاتل من فوق صهوته، حتى لا يشك أنصاره الجدد في أنه سيهرب ويتركهم، وبعد انتصاره مارس العدل والحلم والعفو عند المقدرة ولم يتعرض لنساء أو أطفال خصومه، وفتح طليطلة بعد ثماني سنوات، ثم أحبط محاولة أبي جعفر المنصور فتح الأندلس لحساب العباسيين، ولكن رأس مبعوثه الملفوفة في راية سوداء ''شعار العباسيين'' أقنعته بالتخلي عن المغامرة أمام الفاتح العادل، الذي حقق نصرا مبينا على الفرنجة بقيادة الامبراطور شرلمان الذي أطلق عليه ''سيد الغرب''، بينما كان أبو جعفر المنصور ''سيد الشرق''، وبذلك فإن عبد الرحمن انتصر على سيدي الشرق والغرب دون أن يسمي نفسه خليفة أو إمبراطورا، بل اكتفى بلقب ''الأمير''.
وبعد استتباب الأمر له بدأ سلسلة إصلاحات وبناء لا مثيل لها تشهد إلى اليوم على إنجازه وتقف دليلا على عظمة الفن الإسلامي والمعمار العربي الإسلامي، وقد بقيت آثار عبد الرحمن، أما بغداد فقد دمرها المغول. ولعل من أبرز إنجازاته توفير مياه الري والشرب ونقل أنواع عديدة من الفواكه إلى إسبانيا، منها المشمش، الخوخ، والرمان، أما مسجده فيبقى رغم تحويله إلى كنيسة شاهدا على الرقي الإسلامي، ولعل أعظم منجزات هذا الصقر القرشي هو تطبيقه العدالة، فقد سجل له المؤرخون الغربيون أنه أول من أنصف الأقنان والعبيد والعمال من أسيادهم الإسبان، فلم يكن لهم أي حقوق أمام نبلاء القوط وكهنتهم، وأصدر قانون حقوق الفلاحين الذي وصفه المؤرخ رينهارت دوزي ''إن الفتح العربي أعطى الكثير من الومضات الحضارية لإسبانيا التي سبقت عصرها''.
وكانت عظمته سببا في المصائب التي تلت حكمه، ذلك أن صقر قريش أصر على التسامح وإقرار العدالة وإعطاء أصحاب الملل الأخرى من يهود ونصارى وغيرهم مطلق الحرية. وكان الشعب الذي يحكمه يتكون من بربر وعرب وقوط وخليط عرب إفريقي يعرف بالعرب الإسبان، وهم نتاج الزيجات المختلطة بين الفاتحين وأصحاب الأرض الأصليين. ولم يفرض عبد الرحمن الإسلام على هؤلاء الرعايا من غير المسلمين، ويسجل له التاريخ أن عدالته وتسامحه وسعة قلبه وعقله مع شعب، يجمع المتناقضات، كانت خطأ استراتيجيا هائلا، ذلك أن الغزاة الإسبان إيزابيلا وفرديناند اللذين انتصرا على آخر معاقل المسلمين في غرناطة، بدآ حكمهما بمحاكم التفتيش أو ساحات التعذيب التي أحرقت كل من لم يعلن مسيحيته على المذهب الكاثوليكي وبتصريح مفتوح من البابا أنوسنت والبابا إربان. وقليل من صناع صورة اليوم هم الذين يتوقفون أمام هذا القوي المنجز والمتسامح، وكثيرون هم الذين يتهمون المسلمين، وحتى الآن، بعكس حقيقتهم، وهم في الوقت ذاته يعرفون أنهم عتاة الإجرام والاضطهاد والقمع والإرهاب في التاريخ.