الطريق الرشيد .. إلى استقرار سوق الأسهم السعودي
إن العودة إلى حالة الصعود الحاد ثم حالة الهبوط الحاد في سوق الأسهم خلال ثلاثة أيام. يؤكد أن الخلل ما زال كامناً في سراديب السوق.
ولذلك فإننا ما زلنا في حاجة إلى الوصول إلى مواطن الخلل ووضع المعالجة الكاملة لكل الخروقات. إن المتابع للحركة في السوق يلاحظ أن التشريعات الحالية المتعلقة بالسوق تحتاج إلى المزيد من القواعد التي تكفل ضبط إيقاعاته صعوداً وهبوطاً، حتى يبتعد مؤشر السوق عن المناطق الحدية وتستقر درجات التذبذب عند الحدود المقبولة والمعقولة.
إن المجلس الاقتصادي الأعلى في جلسته الموفقة التي ترأسها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز - يحفظه الله - وضع يده على بعض مواضع الخلل وأصدر خادم الحرمين الشريفين توجيهاته بمباشرة المعالجة والتنفيذ، ويأتي في مقدمة القرارات التي ناقشها المجلس موضوع تجزئة أسهم الشركات ذات القوائم المالية الجيدة، وكذلك إتاحة الفرصة أمام المقيمين من غير السعوديين للاستثمار في السوق وفق قواعد تحددها هيئة سوق المال.
والمهم الآن أن تباشر الجهات المعنية فورا بوضع التشريعات اللازمة لتنفيذ ما وجه به خادم الحرمين الشريفين، لأن سوق الأسهم يعمل بسرعة الضوء، وإذا تركنا التشريعات الجديدة لبيروقراطية الإدارة فإن أزمة السوق سوف تتفاقم، وأزمة أسواق الأسهم كالسرطان إذا استفحلت فإن علاجها يكلف كثيرا.
ولا شك أن وضع هذين المبدأين موضع التنفيذ الفوري والسريع سيوفر المزيد من السيولة وسيحقق جانباً مهماً من الاستقرار للسوق.
ومن موقعه كابن بار ومخلص لوطنه ومليكه.. نهض الأمير الوليد بن طلال وأعلن عن اعتزامه ضخ خمسة إلى عشرة مليارات ريال في سوق الأسهم السعودي انطلاقاً من أن الفرص في سوق الأسهم السعودي هي فرص ذهبية ومتميزة، ودعا سموه المستثمرين السعوديين إلى عدم الانسياق وراء المضاربين الذين يركضون وراء الأرباح في المدى القصير، وتقديراً لهذه المبادرة التي عبر عنها الأمير الوليد بن طلال فإننا نرجو أن ينحو كبار المستثمرين السعوديين المنحى نفسه الذي نحاه الأمير الوليد بن طلال، وأن يكون موقف الأمير مثلاً أعلى لغيره من أثرياء وأبناء هذا الوطن ممن أعطاهم هذا الوطن الثروة والمال والجاه. صحيح أن الاقتصاد لا يعرف لغة العواطف، ولكن الأكثر صحة أن مخافة الله في الوطن وأبناء الوطن فوق كل الماديات الزائلة انطلاقاً من أن الكسب الحلال المشروع هو الوسيلة والغاية عند كل مواطن سعودي غيور على دينه ووطنه.
إن تدخل الحكومات في سوق الأسهم (وبالذات في دول العالم الثالث) من الأشياء الطبيعية والمطلوبة لإعادة التوازن إلى السوق وإلا فإن استمرار الأزمة لفترة طويلة، قد يصرف شريحة كبيرة من صغار المستثمرين عن السوق نهائيا مما يلحق بالاقتصاد الوطني أضرارا بالغة وموجعة.
وبالأمس خسر السوق المصري 11 في المائة فبادرت هيئة سوق المال المصرية إلى التدخل فورا وأوقفت التداول لفترة من الوقت حتى تهدأ النفوس ثم سمحت بالتداول فعاد التوازن إلى السوق، وفي دولة الإمارات اجتمع المسؤولون بكبار رجالات الأعمال لمناقشة أسباب الهبوط الحاد الذي ضرب السوق، ناهيك عن موقف المسؤولين في الكويت الذين وضعوا صناديق للتحوط حتى لا تتكرر أزمة سوق المناخ.
وإذا درسنا تاريخ الاقتصاد السعودي نلاحظ أن الحكومة تتدخل في كل تفاصيل الحياة الاقتصادية، وتعتبر الاقتصاد في مقدمة منظومة الأمن القومي، وكان الملك عبد العزيز - طيب الله ثراه - وهو مؤسس الاقتصاد السعودي الوطني يباشر بنفسه مشاريع زيادة الموارد الاقتصادية، وبالذات المشاريع البترولية التي كان يرعى بنفسه الاحتفالات باكتشافات آبارها ويتابع كل مراحل مشاريعها وكانت قراراته الاقتصادية حاسمة وقاطعة، أكثر من هذا فإن جميع المؤسسات المالية في المملكة وعلى رأسها وزارة المالية أنشئت من أجل أن تتدخل لحماية المكتسبات الاقتصادية.
أقول إذا كان عدم التدخل في أسواق الأسهم في الدول المتقدمة إحدى الآليات التي تقوم عليها هذه الأسواق، فإنه ليس بالضرورة أن يكون كذلك في دولة تفتقر إلى ثقافة الأسهم وتلعب الإشاعات والعوامل النفسية دورا كبيرا في تسيير أمور السوق فيها.
لنأخذ تجربة سوق المناخ في الكويت حينما انهار السوق انهارت معه كل التشكيلات الإدارية وانهار النظام الاقتصادي برمته، وحينما عاد سوق الأسهم الكويتي عاد ومعه تنظيمات جديدة استوعبت الدرس ونصت على إنشاء صناديق التحوط التي تتدخل عند الضرورة للتخفيف من الأزمات، بل أكثر من هذا فإن ظاهرة إنشاء الصناديق بهدف دعم سوق الأسهم ليست جديدة، فبعض الأسواق في أوروبا كألمانيا وفرنسا لديها صناديق من أهم أهدافها حماية أسواق الأسهم من الانهيار إدراكا من هذه الدول أن الأسواق عرضة للأزمات المرئية وغير المرئية.
أمام هذه التجارب فإننا نستطيع القول إن سوق الأسهم السعودي يبدو وكأنه مكشوف بدون غطاء وقائي، وأنه في أمس الحاجة إلى إقرار غطاء له يحميه من الأزمات التي إذا تركت فإنها سوف تلحق أضرارا مؤلمة بالاقتصاد وبالمواطنين من المستثمرين الصغار قبل الكبار.
إذن الهلع الذي يعيشه المستثمرون والمستثمرون الصغار بالذات، هو هلع طبيعي لأناس قليلي التجربة تسمرت أعينهم على مؤشر كان يرتفع دائما بمعدلات غير موضوعية، ثم فجأة تهبط كل الأسعار أمام أعينهم ولا يملكون ما يوقف هذا الهبوط.
ونعود مرة أخرى لنؤكد أن السوق السعودي هو سوق مراهق جديد عمره لم يتجاوز السنوات الثلاث، ولو كان سوقا ناضجا زاخرا بالتجارب لما ظل يقفز مؤشره إلى الأعلى بدون مبررات موضوعية ، ولكن - مع هذا - يجب أن نعتبر هذه التجارب القاسية تجارب مفيدة تضيف إلى السوق تجربة الهدوء والنمو بالتدرج. وإذا عرف مؤشر السوق النمو التدريجي، فإن الهبوط الذي هو سمة من سمات أي سوق سوف يحدث بمعدلات طبيعية وتدريجية، وعندئذ لا نتوقع الخطر إلا لماما.
والمفروض ألا تحوم حول سوق الأسهم المخاطر بصورة دائمة وبصورة عنيفة، فهو استثمار له هامش من الخطر, إلا أن هذا الهامش يجب ألا يكون كبيرا ومداهما في كل الأوقات واللحظات.
وإذا كانت موجة الهبوط الحاد قد آلمت الكثير جدا فإنها أوضحت أن تجارب هيئة سوق المال في مواجهة الأزمات متواضعة، وهذا واضح من خلال المقولة التي يتشدق بها بعض أعضاء هيئة سوق المال التي تقول إن المستثمر الصغير حينما دخل السوق لم يستأذن الحكومة، ولذلك ليس من واجب الحكومة أن تتدخل لإنقاذه، وطبعا هذا كلام ساذج، فالمواطن السعودي دخل مجالات كثيرة في الحياة ولم يستأذن الحكومة، فالمواطن دخل الجامعة ولم يستأذن الحكومة، ولكن الحكومة من موقعها كراعية لمواطنيها مسؤولة عن توفير الوظيفة لكل مواطن، والمواطن الذي أقدم على تكملة نصف دينه لم يستأذن حكومته، ولكن الحكومة من أهم واجباتها توفير الأمن والأمان لماله وعرضه وكل ما يملك، وبالمثل فإن المواطن يدخل سوق الأسهم وعلى الدولة الحامية أن تحميه من أزمات هذا السوق العاتية، إذن إن عدم التدخل هو موضوع نظري لا نجده إلا في الكتب والمحاضرات.
ودعونا نتصور - باختصار - ما سوف تفرزه هذه الأزمة التي يتعرض لها سوق الأسهم السعودي. إن انهيار سوق الأسهم - لا سمح الله - يعني انهيار شريحة كبيرة من المواطنين في براثن الفقر, فكثيرون باعوا ما فوقهم وما تحتهم وذهبوا إلى سوق الأسهم باحثين عن مستوى معيشي أفضل بل كثيرون اتجهوا إلى الاقتراض للدخول في سوق الأسهم من أجل أن يكملوا نصف دينهم، أي أن مقاصد هؤلاء المواطنين وهم يهمون بدخول سوق الأسهم كانت مقاصد خيرة ونبيلة.
كان الكثير من محدودي الدخل يظنون أنهم سيغادرون سوق الفقر إلى سوق الغنى، ولكن المفاجأة - للأسف - فاجأتهم بسوق أكبر للفقر والعوز.
إن المجتمع السعودي الحضاري المسلم يؤمن دائما بقضاء الله وقدره وحينما تدهمه الملمات يلجأ - بعد الله - إلى حكومته الرحيمة التي وجد دائما من قائدها ومليكها المفدى الاهتمام بحل مشاكله وتحسس آلامه والمبادرة بمعالجة أزماته بالحكمة والرحمة والتيسير، يسر الله لحكومتنا الرشيدة سبل الحل الرشيد والتدخل المريح والخير العميم.