فاشية الصورة الافتراضية
الفزع هو ردة الفعل الطبيعية بمجرد مشاهدة يوري مرقدي يصاحب سعاد حسني في فيديو كليب مدبّر، لأن ما أبداه من التمسح بذيل السندريلا، وادعاء الوصل بها، حتى قارب الحقيقة بصرياً، هو بمثابة انتهاك صارخ للزمن الجميل، أو اغتصاب رمزي للآخر، كما تصف سوزان سونتاغ الفعل المتعدي للصورة. ومن الوجهة التقنية هو إنذار بتزوير قادم وفاضح للحقائق من خلال ما بات يعرف بالصورة الافتراضية، التي تنهض على معطيات الكفاءة الرقمية، وبواسطتها يمكن مزاوجة الخيال بالواقع، حيث ظهرت تباشيرها المثيرة سينمائيا من خلال المصافحة الشهيرة بين توم هانكس والرئيس كيندي في فيلم " فورست غام " أي استنساخ فعلية الأصل وإغواء المتلقي بتصديق شكلها الجديد.
وعندما كان الحسن بن الهيثم يجرب انعكاس الضوء بالصور المقلوبة داخل صندوق معتم، لم يكن يحلم بأكثر من الوصول إلى صورة بدائية يحنط بموجبها الزمان والمكان، حتى جوزيف نييبس عندما نجح في إنتاج أول صورة مستديمة لم يكن يتصور أنه سيتم توظيفها بهذا الشكل الاستلابي والفاشي للواقع، وأنها ستكون "علامة تكنو - ثقافية" خطيرة. وقد أرّخ جورجي غاتشيف ذلك الحلم الإنساني بدءا من خربشات الإنسان الأول في الكهوف، وصولا إلى الصورة المتحركة، أو ما سماه ريجيس دوبريه " الصورة السائلة ". وهذه الصورة الحية بالذات هي التي أثارت الرعب لدى الأمريكيين عندما شاهدوا برجي مركز التجارة يتهاويان يوم الحادي عشر من سبتمبر، ولم يصدقوا حقيقة ما حدث إلا بعد أن ظهرت صحف اليوم التالي بصور مجمدة للحدث.
كل ذلك يعني ارتباك الإنسان قبالة سطوة الصورة، وسعيه الدائم للتواؤم مع مظاهر سطوتها، بما هي عملية اختزال معقدة للواقع، تتفاعل كخطاب متعدد الدلالات مع النظرة البشرية، كما تشير نشأتها من المنظور الحداثي، فللصورة سطوتها ومبرراتها الجمالية والموضوعية، سواء كانت رمادية في ألبوم العائلة، أو محقونة بالتاريخ والأيدلوجيا، لأنها بقدر ما تتفاعل مع البصر، هي علامة ومادة دلالية تتفاعل جدليا مع الزمان والمكان في محاولة لتأطيرهما أو حبسهما في خطاب جمالي، أو هكذا تتفاعل مع مرجعها الواقعي، وربما لهذا السبب وصفها رولان بارت بالتجربة المصغرة للموت، التي يتم بموجبها إحالة ذات حية إلى موضوع ميت، وتحنيطه في جمود أبدي.
ولأن العصر هو عصر الصورة التي أصبحت أهم حتى من الواقع، بدليل الحروب التلفزيونية الأخيرة، التي لم تحدث على أرض الواقع بقدر ما تم استعراض أوهامها على الشاشات، كما حللها بورديو في كتابه " الحرب والصورة " حيث تم التركيز على استخدام الصورة كنص، أو كخطاب يحمل من القيمة الفنية والحرفية ما يؤهله للتطابق مع الواقع أو محاكاته، بل وما يمكن أن يعزز الصورة من توتر درامي مستعار، لا لسهولة استقبالها وتوظيفها جماهيريا وحسب، ولكن بالنظر إلى قابليتها لأن تكون حقلا معرفيا تتطور في حيزه النظريات الاتصالية والبنيات النصية، التي بموجبها يتم إنتاج الخطابات.
يحدث هذا لأنها أكثر الحقول المعرفية استعارة للغة، وأوشجها بمفاعيل السلطة، فهي تستبطن عنفاً مبرراً إزاء مفارقات الواقع، بما تبثه من شحنة مكثفة للرسالة، إذ تغني صورة واحدة عن ثرثرة الخطابات الكلامية، فهكذا سقطت كل دعاوى المؤسسة العسكرية الأمريكية أمام مشهد إعدام الجريح العراقي الأعزل في أحد مساجد الفلوجة بدم بارد، رغم محاولات كيفن سايتس محرر محطة " إن بي سي" المرافق لقوات المارينز قلب الحقائق إثر ضغوط معروفة بتجهيل القاتل، والتغاضي عن التوتر الدرامي المرعب الذي حملته تلك الصورة وما تسرب من ألبوم العذاب في سجن " أبوغريب".
وبقوة الصورة وفصاحتها أيضا اهتزت أسطورة إسرائيل، أمام وجه الشهيد محمد الدّرة المذعور، في حالة موته المعلن، كما نقله حياً مصور المحطة الثانية للتلفزيون الفرنسي طلال أبو رحمة، لكن شبكة تلفزيونية كندية متصهينة لجأت إلى خديعة الصورة الافتراضية فألبسته طاقية " الكيبه " تأكيدا على محمولات نظام الشفرات، وعرضته كطفل يهودي بريء يحاول الاختباء في حضن والده، لئلا يغتاله رصاص الفلسطينيين، وكأن مسألة التأثير تكمن في القدرات الفنية على توظيف الأصل بنسخة محوّرة، تماما كما تم إسقاط شاوشيسكو بخدعة سينمائية، صوّر بموجبها وسائل الإعلام الغربية ما جرى في مدينة " تيمشوارا " بالكارثة الإنسانية حيث أزهقت عشرات الآلاف من الأرواح، وتبين لاحقا أنها مجرد صور من الحرب العالمية الثانية تم استخدامها فيما يعرف بالإرهاب الإعلامي.
إذا، هي صورة مقابل صورة، ولكن يصعب أحيانا استدماجهما في صورة افتراضية، بالنظر إلى احتوائهما على العنف الواقعي وليس الرمزي كما اختصر مصور ناشيونال جرافيك الشهير ستيف ماكوري جانباً من معاناة أفغانستان بصورة تلك اللاجئة الأفغانية الوادعة، شربات جولا، التي لم تتعرض لتصحيفات الصورة الافتراضية، وكذلك صورة الفتاة الفيتنامية العارية «كيم بهوك» التي اضطرت لتمزيق ملابسها بعد تعرضها لقنبلة نابالم حارقة، كما التقطها نك أوت، لكن البورتريه الشهير لتشي غيفارا، الذي التقطه ألبرتو كوردا، تم إنتاج نسخ افتراضية منه لتسليعه، وذلك بعد العبث بإيحاءاته التي تحيل إلى زمن الرومانسية الثورية، فهذه هي حضارة اليوم، التي تسعى لاستثمار اللقطات أو الرموز الحية وأيقنتها، بتطوير الصورة حتى صارت لسانها، وبتحويل المرئي إلى وحدات سردية قابلة للقراءة، فيها من السحرية واحتواء الواقع ما يخاطب البصر، أي بنص مكدس بالشفرات.