الإعلام الدموي .. إلى متى؟
تطالعنا بعض الصحف اليومية بمناظر تصيبك بالغثيان لأشلاء الضحايا في الحوادث الإجرامية والمرورية في منظر وحشي دموي سافر لا يمت للرسالة الإعلامية من وراء نشرها – إن كانت هناك رسالة أصلاً - بصلة. فهذه جثة شخص منتحر مدلاة، وهذه يدا ورجلا شخص مقطوعة وموضوعه في وعاء بلاستيكي لجريمة في باكستان، وهذه سكين ملطخة بـدماء طفل نُحر في جدة، وهذه أشلاء ضحايا حادث مروري، وهذه بقايا جسم مجمعة على الأرض بجوار الرأس لإنتحاري في العراق. وفي الحقيقة لا يجد أحدنا مبرراً إطلاقاً لإظهار هذه المناظر الوحشية إلا إذا كان أصحاب هذه الأخبار يعتقدون أنها تزيد عدد قراء صحفهم مما هو مفيد. وأعرف أشخاصا كُثرا (سيدات وسادة) منعوا هذه الصحف من دخول منازلهم، إدراكاً منهم لتأثيرها النفسي الكبير فيهم أنفسهم قبل تأثيرها في أطفالهم. إن الاستمرار في مطالعة مثل هذه الأخبار وربطها بالحوادث الإجرامية قد يكون له أثر عكسي بتطبيع مثل هذه الأحداث عند صغار السن والمراهقين، وبالتالي نشر ثقافة العنف في المجتمع - التي تبذل جهودا مضنية مضادة لها في كثير من المصالح الحكومية التنفيذية والأكاديمية والإعلامية - بدلاً من احتوائها. إن نشر مثل هذا السلوك الإجرامي وتصويره في وسائل الإعلام قد يكون لها تأثيرات سلبية وتسهل العمل الإجرامي كالقتل والانتحار من جانب من يتعرض لمثل هذه المحفزات، وخصوصا لمن لديه الاستعداد لذلك، وهناك العديد من الأبحاث الغربية المنشورة في مجلات علم النفس والجريمة تؤكد وجود أدلة دامغة على تأثير وسائل الإعلام في الأفراد ذوي السلوك الإجرامي. إضافة إلى أن مثل هذه المشاهد فيها اختراق لكرامة الإنسان سواء كان حياً أو ميتاً، مذنباً كان أو معتدى عليه، ما لم يكن هناك نص قضائي بالتشهير بالمجرم، وفيه أيضاً عدم مراعاة لمشاعر أقارب من تنشر صورهم، وما يحمله ذلك من آثار نفسية عليهم.
وهنا تقع المسؤولية على مديري التحرير في مثل هذه الصحف بعدم السماح بتمرير مثل هذه المناظر البشعة، التي أعتقد أنها تتنافي مع ميثاق الشرف الصحافي الدولي، علماً بأن المادتين العاشرة والحادية عشرة من ميثاق العمل الإعلامي العربي أشارت إلى مثل هذه الجزئية. كما أن كلُ من الأكاديميين الإعلاميين، التربويين والاجتماعيين، والنفسيين، مطالبون بدراسة تأثير مثل هذه المناظر في المتلقي وخصوصاً الأطفال، وتدريس التأثير السلبي المحتمل لها لطلاب أقسام الإعلام حتى يكونوا على وعي بمدى تأثير مادتهم الإعلامية في المجتمع. ومن المستغرب صمت المسؤولين في مؤسسات حماية الأطفال عن مثل هذه الممارسات الكارثية على نفسيات أطفالنا، فمثل هذه المواضيع في اعتقادي أكثر تأثيراً في نفسيات صغار السن، وخصوصاً المراهقين من ألعاب الكمبيوتر العنيفة أو أفلام الرعب، بسبب إدراكهم أنها حقيقة وليست خيالا، ولذا فهي الأجدر بإصدار ضوابط لنشرها في الصحف أو وسائل الإعلام الأخرى. وحتى لا يكون إصدار مثل هذا التنظيم فيه حد من الحرية الإعلامية، فإن من الواجب القيام بدراسة شاملة وممولة من أحد كراسي الأبحاث، أو مدينة الملك عبدالعزيز للعلوم والتقنية، لتحديد أثر نشر هذه الأخبار في الأطفال، على أن يشترك فيها باحثون من تخصصات الطب النفسي والإعلام، ويمكن لطلاب الماجستير أو الدكتوراه في هذه التخصصات القيام بهذه الدراسة.
*دكتوراه في المعلوماتية الحيوية وحوسبة الأحياء
[email protected]