تصيد الأخطاء
لقد توقفت كثيرا عند مقولة متداولة في بعض كتب الإدارة والبرامج التدريبية أوردتها فيما يلي بنصها الإنجليزي حتى لا أحرف معناها البسيط لغة و العميق مضمونا catching people doing things right، وبدأت أفكر في مدلول هذه المقولة، وكيف أننا في كثير من الأحيان نمارس سلوكا مخالفا لما تدعو إليه، فلو أجريت استبيانا لجماعة من الناس من مختلف الشرائح، فأكاد أجزم أنك لن تجد من ينفي حصول تصيد الأخطاء في أي تنظيم ولو بدرجات مختلفة مهما ارتقى مستوى التعامل فيما بين أفراده، بدءا من الأسرة أصغر تنظيم اجتماعي مرورا بمختلف التنظيمات الأكبر حجما كالمدارس والجامعات والمؤسسات والشركات إلى أن تصل إلى المجتمع ككل، فتجد بعض الآباء قليلا ما يلاحظون تصرفات الأبناء الإيجابية، وقد تمر عليهم مرور الكرام فلا يعلقون عليها ولو بكلمة تشجيع واحدة تحفز من قام بهذا الفعل ليعاود تكراره. وفي المقابل لو حدث أن أقدم أحد الأبناء على خطأ ما فستجد ردة الفعل لدى البعض شديدة، وربما سمع الابن الكثير من كلمات التوبيخ والتقريع التي قد تتسبب في أذى نفسي يفوق ما ارتكب من خطأ، وسترى السيناريو نفسه يتكرر بدرجات متفاوتة بحسب الخلفية الثقافية في أماكن العمل، فالبعض من المديرين يعبرون بحدة عن غضبهم عندما يخطئ الموظف، ولكن قليلا ما يبدون مشاعر الرضا والامتنان عند الأفعال الصائبة، اعتقادا منهم أن الموظف الناضج لا يحتاج إلى الثناء والتحفيز الدائم بينما العكس هو الصحيح، فالكل يحتاج إلى عبارات التأييد والتشجيع التي تشعر الابن باهتمام أبويه والصديق بامتنان صديقه والموظف برضا رئيسه فترتفع المعنويات وتزداد الأفعال الإيجابية.
من المؤكد أن كثيرا ممن يتصيدون الأخطاء لا يمارسون ذلك عن تعمد وسبق إصرار، إلا فيما ندر وتعد حالات شاذة، كل ما في الأمر أن هذا المرء اعتاد هذا السلوك غير السليم، لأنه شديد الانفعال عند وقوع الأخطاء، لاحظ كيف يعامل الضابط في الشرطة أبناءه، إنه يمارس القيم العسكرية نفسها داخل بيته كالشدة والصرامة في تنفيذ الأوامر لأنه اعتادها، ومع أن الرؤساء يعلمون أن أسلوب تصيد الأخطاء تصرف غير سليم، إلا أن بعضهم يقع فيه، فالمعاملات بين البشر تعتمد على المهارة أكثر منها على العلم، لذلك نرى هذا التباين فيما بينهم، فكم من شخص متعلم وقد يكون لديه أرفع الدرجات العلمية لا يوفق في تطبيق ما تعلمه عمليا، لأنه يفتقد المهارة التي يتم صقلها وتطويرها من خلال الممارسة.
كثيرا ما نحاول اكتساب بعض المهارات التي تجعل من هم حولنا أفضل حالا ولكن قد لا نوفق، فلكي يحوز الإنسان المهارة لا بد أن يتعلمها أولا ثم يمارسها ويتدرب عليها إلى أن يتمكن من إجادتها، وللتخلص من عادة تصيد الأخطاء لا بد من تعويد النفس على عدم الغضب والحلم عند وقوع الخطأ، فكما يقال العلم بالتعلم والحلم بالتحلم، وكذلك الاقتداء بمن يحسنون مهارة التعامل مع النفس البشرية، ولنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة في قصة تعامله مع الأعرابي الذي تبول في المسجد، فعن أنس رضي الله عنه في الحديث المتفق عليه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصيحون به: مه مه (أي دع)، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه، دعوه" (أي لا تقطعوا عليه بوله)، فترك الصحابة الأعرابي يقضي بوله، ثم دعا الرسول صلى الله عليه وسلم الأعرابي فقال له: "إن المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول والقذر، إنما هي لذكر الله والصلاة وقراءة القرآن" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: "إنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين، صبوا عليه دلوا من الماء ، فقال الأعرابي : "اللهم ارحمني وارحم محمدا ولا ترحم معنا أحدا"، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: " لقد حجرت واسعا".
طبعا لسنا هنا في وارد عقد مقارنة بين الخطأ الذي وقع فيه الأعرابي وبين ما يصدر من بعضنا من الأخطاء، ولكن لنتوقف عند أحداث القصة ونأخذ منها العبر لنتعلم كيف تعامل معلم الأمة مع الأعرابي الذي وقع منه الخطأ، إنها مجموعة دروس عملية لكيف يكون الإمساك عن الغضب والحلم والرحمة وأسلوب التوجيه، كم من المهارات كان الصحابة رضوان الله عليهم يتعلمونها من معلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأعطونا مثالا ناصعا لكيف يتغير الإنسان من النقيض إلى النقيض فسادوا الأمم.