عصر الخوارزميات.. المؤشرات الذكية والتداول الآلي

شهدت السوق المالية السعودية خلال عام تحولات مهمة شملت منتجات استثمارية مبنية على مفاهيم جديدة، مثل الخوارزميات وأساليب الكمية والكمومية والمستشار الآلي والتداولات عالية السرعة والتكرار، من ذلك صندوق المؤشر الكمي التابع لساب للاستثمار الذي يستهدف أداء مؤشر إس آند بي السعودي المتوافق مع الشريعة، وفي مارس 2025 صندوق وينفستون الكمي للأسهم السعودية، وهو صندوق استثمار عام يدار بطريقة كمية نشطة، وأخيراً قبل أيام موافقة هيئة السوق المالية على طرح صندوق "الخوارزميات المعززة للتداول في الأسهم السعودية" المدار من قبل السعودي الفرنسي كابيتال، والذي يختلف في كونه يوظف نماذج خوارزمية متقدمة لاتخاذ قرارات الشراء والبيع وتوقيت الصفقات، ويختلف في أنه غير متداول بل صندوق استثماري تقليدي. مع هذه التطورات دعونا نلقي نظرة على هذه الصناديق الجديدة ونتعرف على أهميتها وهل يمكنها تحقيق عوائد مختلفة عما هو متاح بطرق أخرى، وغير ذلك من ميزات ونحاول تصحيح بعض المفاهيم.

ما الفرق بين الحوسبة الكمية والصناديق الكمية؟

بداية، علينا ألا نخلط بين صناديق الحوسبة الكمية (أو الكمومية) والصناديق الكمية، وسبب اللبس أن كلمة quant تظهر هنا في سياقات مختلفة تماماً، فمثلاً هناك صناديق نشطة تستثمر في مجال الحوسبة الكمية، وهي التقنية الجديدة التي لا تعتمد على العالم الثنائي للحواسيب التقليدية (صفر وواحد)، بل تستخدم فيزياء الكم للحصول على قيم متعددة، وبالتالي تقلب الطريقة التي يعمل بها الكمبيوتر رأساً على عقب، وهذا ليس له علاقة اطلاقاً بالصناديق التي تستخدم الطرق الحسابية الكمية لانتقاء الأسهم، مثل صندوق ساب وصندوق وينفستون على سبيل المثال.

ما الدوافع لبروز مثل هذه الصناديق؟

هناك عدة عوامل، منها الرغبة في مواكبة الأسواق العالمية التي باتت تعتمد بشكل متزايد على التداول الكمي، إلى جانب الرغبة في جذب فئات معينة من المستثمرين الذين ينظرون بإعجاب إلى مصطلحات مثل "الذكاء الاصطناعي" و"الخوارزميات" والحسابات الكمية، وكذلك يعود ذلك إلى حاجة مديري الأصول إلى التميز في سوق مزدحمة بالصناديق التقليدية، ثم أضف إلى ذلك ‘ستراتيجية الهيئة لزيادة عمق السوق وتنوع منتجاتها بما يتماشى مع مستهدفات رؤية 2030.

كيف يعمل الصندوق الكمي؟

الصندوق الكمي يبني قراراته على قواعد ثابتة، فينتقي شركات ويستبعد أخرى بناءً على السيولة، أو الحجم، أو زخم السعر أو معايير أخرى معلنة، وقد يكون مبني على مؤشر معين (مثل مؤشر الأسهم السعودية) ولكن باختيار عوامل معينة، وهذا يختلف عن الصناديق الكمية النشطة، مثل وينفستون، التي تستخدم نماذج رياضية لاختيار الأسهم وفقاً لعوامل مثل القيمة والزخم والجودة، ثم تعيد موازنة المحفظة دورياً. النقطة المهمة أن هناك فارق كبير بين الصندوق "النشط" بمعنى أن لديه الحرية الكاملة في اختيار الأسهم، والصندوق "غير النشط" الذي يتبع مؤشرات معروفة، فلا يكون هناك مجالاً لمدير الصندوق في اختيار الأسهم، ومع ذلك فالصندوق الكمي المتداول التابع لساب للاستثمار يعد صندوق غير نشط، ولكن مع قيام مدير الصندوق باختيار الأسهم، وهنا إشكالية في المصطلحات فكيف يكون صندوق غير نشط ويقوم باختيار الأسهم؟

الصناديق المتداولة وغير المتداولة تأتي إما نشطة بشكل كامل، بحيث يقوم مدير الصندوق بإضافة وحذف الشركات من الصندوق كيفما يشاء ومتى ما يشاء، مثل أكثر الصناديق الاستثمارية التقليدية، وعلى النقيض من ذلك هناك الصناديق غير النشطة (أو الخاملة أو التي تسمى بالخطأ "السلبية") وهي التي يقتصر دور المدير فيها على مطابقة أداء المؤشر المستهدف، مثلاً أحد المؤشرات الخاصة بالسوق السعودية، وليس كالصندوق النشط الذي يسمح لنماذج برمجية بالقيام بعمليات بيع وشراء بالطرق ذاتها المستخدمة في الصناديق الخوارزمية في الأسواق العالمية، فيكون نشط، ولكن ليس بشكل مطلق لأنه يتبع نماذج خوارزمية معينة، وليس حسب مزاج مدير جالس خلف شاشة، بل وفق قواعد برمجية دقيقة تنفذ أوامرها بشكل منهجي.

ما علاقة هذه الصناديق بالمستشار الآلي Robo-Advisory؟

هيئة السوق المالية قامت كذلك بالترخيص لخدمات المستشار الآلي، حيث يستطيع المستثمر من خلال تطبيق أو منصة الحصول على محفظة متوازنة مبنية على خوارزميات، بحسب مدى تحمله للمخاطر وأهدافه الزمنية ورأس ماله، وغير ذلك، فتصبح العملية شبيهة بما يقوم به مدير صندوق كمي أو خوارزمي ولكن من خلال تطبيق شخصي بحيث لا يدير المستثمر محفظته بنفسه، بل يسلم قراره الاستثماري لخوارزمية تقوم بالاختيار والتنويع وإعادة التوازن.

هل من أخطار لهذه الفرص، وهل أداءها أفضل من غيرها؟

الميزة الرئيسية لهذه الصناديق هي الانضباط، فهناك من يعتقد أن التدخل البشري في اتخاذ القرارات الاستثمارية، في الأسهم على وجه الخصوص، محفوف بمخاطر عديدة ويخضع للظروف النفسية المتقلبة والخبرات الشخصية التي لا يمكن الاعتماد عليها، حيث تشير الدراسات إلى صعوبة تكرار الأداء نفسه من عام لآخر، بغض النظر عن مهارة وشطارة وخبرات مدير الصندوق، بينما الأجهزة البرمجية لا تنفعل بالأخبار ولا تعتمد على العواطف، بل تعمل وفق قواعد محددة مبنية على دراسات وتحليلات منضبطة من المفترض أن تؤدي إلى نتائج أفضل من غيرها.
ومع ذلك الخطر يكمن في أن كثيراً من النماذج قد تتشابه، وإذا أوصت جميعها بالبيع أو الشراء في وقت واحد، فما الذي يمكن أن يحدث نتيجة تنفيذ هذه القرارات بشكل جماعي؟ هل نشهد موجات اندفاع للشراء أو البيع قد تخلق نوع من عدم التوازن، فترتفع الأسعار وتهبط بسرعة مفرطة؟ وبالفعل رأينا في أوقات سابقة في الأسواق الأمريكية وقوع مثل هذه الأحداث، كما حدث في "الانهيار الخاطف في 2010، وفي 2007 حين عانت عديد من الصناديق الكمية حالات" تصادم النماذج.

تحركات في عدة جهات
يمكننا القول إن السوق السعودية تتحرك في عدة اتجاهات، فهناك التداول الخوارزمي السريع (HFT)، المتاح لمؤسسات مالية مرخصة حيث يحصلون على خوادم حاسوبية داخل مركز بيانات "تداول"، والصناديق الاستثمارية الخوارزمية التي يتم الاشتراك بها بالطرق التقليدية، والصناديق المتداولة الكمية، مثل صندوق ساب للاستثمار الذي يعمل وفق أسلوب smart beta المعروف، وفي النهاية جميعها فكرتها واحدة: يمكن للبرمجيات اتخاذ القرارات الاستثمارية بشكل أسرع ومختلف عن البشر. والسوق السعودية تدخل مرحلة جديدة من "الاستثمار الخوارزمي"، والبيئة التنظيمية والتشريعية بدأت تنفتح لمثل هذه التطورات، وهذا أمر إيجابي، أما النتائج الحقيقية الملموسة فهي قيد الانتظار، وهذه الأدوات تفتح آفاقاً جديدة ومثيرة وتحمل في طياتها مخاطر جديدة لن نعرف عنها سريعاً، وعلى المستثمر الإدراك أن هذه التقنيات ليست عصاً سحرية، بل مجرد أدوات أخرى يستطيع متابعتها وأخذ ما يناسب منها.

مختص بالأسواق المالية والاقتصاد

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي