هل يزيد الذكاء الاصطناعي ثراء المحامين أم يسلبهم وظائفهم؟

لم تتمكن نماذج اللغات الكبيرة من الاستيلاء على العمل القانوني لكنه على الأرجح سيعطل نموذج الفوترة في المهنة


شهد قطاع المحاماة إحراجات تسببت فيها هلوسات الذكاء الاصطناعي مخترعاً سوابق زائفة

 

ظهرت إمكانات الذكاء الاصطناعي التوليدي على إحداث تحول جذري في مهنة المحاماة واضحة حتى قبل بدء انتشار "شات جي بي تي" من "أوبن إيه آي" على الساحة عام 2022. 

إن ما تفعله نماذج اللغات الكبيرة، أي تحليل كميات هائلة من النصوص والبيانات والتوصل إلى حجج مقنعة، يُشبه ما يفعله كثير من المحامين. لكن كثيراً من المحامين والقضاة بعدما تعرضوا لإحراجات شديدة يرون أن "شات جي بي تي" ونماذج اللغات الكبيرة الأخرى لا تقتصر على السوابق القضائية القائمة عند تقديم الحجج القانونية، بل غالباً ما تعمد إلى اختلاق مراجع واقتباسات.

منذ بضعة أسابيع، قال لي شون فيتزباتريك، الرئيس التنفيذي لشركة "ليكسيز نيكسيز" LexisNexis في أمريكا الشمالية والمملكة المتحدة وأيرلندا، وهي تقدم المعلومات والخدمات للمحامين: "لديك حالة استخدام واضحة جداً في المجال القانوني. إلا أن هذه النماذج، هذه النماذج الأساسية، مبنية على الكفاءة لا الدقة. في الواقع، لا تتعامل هذه النماذج مع الحقيقة. إنها تتعامل مع الاحتمالات، ثم تقدم حججاً معقولة".


خدمات لا تخلو من عيوب


تأمل "ليكسيز نيكسيز"، تابعة لشركة "ريلكس" Relx وقد كانت تُعرف سابقاً باسم "ريد إليزيفيه" ومقرها لندن، أن تُحقق نسخة مُركّبة ومُعدّلة نوعاً ما من الذكاء الاصطناعي التوليدي، مبنية على نماذج من "أوبن إيه آي" و"أنثروبيك" Anthropic وغيرها، مكاسب إنتاجية كبيرة لعملائها دون ما يُسمى بالهلوسة. وكذلك الحال بالنسبة إلى منافستها "تومسون رويترز ليجال سيرفيسز"Thomson Reuters Legal Services ، التابعة لشركة "تومسون رويترز" ومقرها تورنتو. 

خدمات الذكاء الاصطناعي القانونية هذه ليست خالية من العيوب. فقد خلصت دراسة نُشرت حديثاً وأعدها فريق من باحثي جامعة ستانفورد أنه على الرغم من أن منتجات الشركتين كانت أفضل بشكل ملحوظ في تجنب الهلوسة من "شات جي بي تي"، إلا أنها لا تزال تُعطي كثيراً من الإجابات غير الصحيحة أو غير الكاملة، حيث ارتكبت Lexis+ AI من "ليكسيز نيكسيز" أخطاءً أقل من أدوات Westlaw AI-Assisted Research و Ask Practical Law AIمن "تومسون رويترز".

يبدو أنهم يحققون نجاحاً في السوق: فقد انتقلت "ليكسيز نيكسيز" من أبطأ قطاعات "ريلكس" نمواً على مدى السنوات الخمس الماضية إلى أسرعها نمواً، فقد ارتفعت ما تسميها الشركة الإيرادات الأساسية (أي مع استثناء عمليات الاستحواذ والتخلص من الأصول وتأثيرات التوقيت) بنسبة 9% في النصف الأول من هذا العام مقارنةً بالنصف الأول من 2024. وأعلنت شركة "تومسون رويترز ليجال" نمواً فيما تسميه نمواً عضوياً في الإيرادات بنسبة 8% خلال الفترة نفسها.


لماذا تأخرت عن الركب؟


تُعد شركات المحاماة بشكل عام متأخرة في مجال الذكاء الاصطناعي، حيث أظهر استطلاع حديث أعدته "تومسون رويترز" أنها متأخرة كثيراً عن قطاع الشركات في الاستثمار التنظيمي في الذكاء الاصطناعي. لذا، يُغري العاملين في المجال القانوني أن يتصوروا مستقبلاً يتبنى فيه المحامون هذه التقنية الجديدة عمداً ولكن تدريجياً لزيادة إنتاجيتهم دون إجراء تغييرات جوهرية في أسلوب عملهم. سيكون ذلك بمنزلة خبر سار للمحامين و"ريلكس" و"تومسون رويترز"، وخبر سار للعملاء الحاليين، الذين يُفترض أن يحصلوا على قيمة أفضل مقابل أموالهم.

يشبه هذا إلى حد كبير أول مستقبلين محتملين وصفهما قبل عقد من الزمن الثنائي الأب والابن ريتشارد ساسكيند ودانيال ساسكيند في كتابهما الشهير: "مستقبل المهن: كيف ستُغير التقنية عمل الخبراء البشريين". في هذا السيناريو "المألوف والمطمئن"، كتبا: "يواصل المهنيون العمل كما اعتادوا منذ منتصف القرن التاسع عشر، لكنهم يُقنّنون وينظّمون أنشطتهم الروتينية بشكل كبير".

أما المستقبل المحتمل الثاني -والذي اعتبره آل ساسكيند أكثر احتمالاً؛ وقد ألّف دانيال منذ ذلك الحين كتاباً لقي استحساناً واسعاً بعنوان "عالم بلا عمل"- فهو مستقبل "سيؤدي فيه إدخال مجموعة واسعة من الأنظمة ذات الكفاءة المتزايدة، بطرق مختلفة، إلى إزاحة جزء كبير من عمل المهنيين التقليديين" و"ستُفكّك مهننا بشكل مطرد".


كيف سيكون مستقبل المحامين؟


سيعتمد هذا جزئياً على ما إذا كانت برامج اللغة الكبيرة ستصبح موثوقة بما يكفي لتحل محلها كلياً، وهي نتيجة لا تزال موضع شك كبير. لكن حتى أتمتة المهام الروتينية قد تُحدث تغييراً جذرياً في اقتصادات مهنة المحاماة.

تدور هذه الاقتصادات حول نظام الفوترة بالساعة. في شركات المحاماة، تعني "الإنتاجية" عدد الساعات التي يُحصّلها محاموهم. أما في أي مكان آخر، فتعني مقدار ما يُنجزه الموظفون في فترة زمنية محددة. يتميّز المحامون، حتى بين زملائهم من مُقدّمي الخدمات المهنية، كالمحاسبين ومستشاري الإدارة ومستشاري التقنية، بضآلة نمو إنتاجيتهم في الساعة على مرّ العقود.

بعد تعديل الإنفاق الرأسمالي، الذي يُخصّص في الغالب لشركات المحاماة لتقنية المعلومات، فإن ما يُسمى بإنتاجية عوامل الإنتاج الإجمالية في الخدمات القانونية، وفقاً لمكتب إحصاءات العمل الأمريكي، أقل بكثير مما كان عليه في ثمانينيات القرن الماضي.

تُعد هذه النتيجة الملحوظة نتيجةً جزئية لكيفية انعكاس التحسينات التقنية في إحصاءات مكتب إحصاءات العمل- كانكماش هائل. إن الدولار الذي يُنفق على تقنية المعلومات والأجهزة والخدمات في 2025 يعتبره مؤشر أسعار المستهلك مكافئاً لنحو 15 دولارا في عام 1988، أي إن إبقاء الإنفاق الحالي ثابتاً خلال تلك الفترة يُعدّ زيادة هائلة في الإنفاق الرأسمالي.

إلا أن حقيقة أن مقدمي خدمات آخرين رفيعي المستوى قد اكتشفوا كيفية زيادة إجمالي إنتاجية العوامل على الرغم من ذلك، تُشير إلى مدى تخلف نموذج شركات المحاماة بشكل فريد.

قد يظل هذا النموذج فريداً لفترة. قال فيتزباتريك: "لقد سمعت عن انتهاء نظام الساعات المدفوعة منذ فترة طويلة، ولم ينته عصره". أضاف أنه "من خلال السماح للمحامين بإنجاز مزيد من الأعمال في ساعة واحدة، يبدو أن التأثير الفوري للذكاء الاصطناعي قد تمثل في زيادة في الأجور بالساعة".

قال: "نشهد زيادات كبيرة في الأجور لكل ساعة بنسبة أحادية الرقم. أعتقد أن جزءاً من ذلك هو أن المحامين يقدمون الآن قيمة أكبر لعملائهم وينجزون ذلك في وقت أقل". في دراسة استقصائية حديثة لشركات المحاماة الكبرى، وجد روبرت جيه. كوتور، من مركز مهنة المحاماة في كلية الحقوق في جامعة هارفارد، إجماعاً مشابهاً على أن الاستخدام المتزايد للذكاء الاصطناعي يُحقق تحسينات في الجودة، وهو ما يُسعد العملاء بدفع مبالغ إضافية مقابله.

لكن ربما ليس إلى الأبد. يعتقد صديقيّ بروس ماكوين وجانيت ستانتون، اللذان يُشكلان معاً شركة "آدم سميث" للاستشارات الإدارية القانونية، أن الانخفاض في ساعات العمل المُفوترة سيُثبت في النهاية أنه حاد لدرجة يصعب على معظم شركات المحاماة تحمّلها.

قال ماكوين: "سيعوق هذا نموذج الفوترة بالساعة التقليدي لشركات المحاماة. أعتقد أن تسعير الرسوم الثابتة سيكون موجة المستقبل". قال ستانتون "إن مشكلة شركات المحاماة تكمن في ضعف بنيتها التحتية المالية، ما يجعل قدرتها على تسعير الخدمات ضعيفة". خلص ماكوين إلى أن النتيجة المُحتملة هي "غربلة واسعة لشركات المحاماة التقليدية".


هل يغيب المحامون تماماً؟


من المواضيع الرئيسية في كتاب الأخوين ساسكيند أن الوضع الراهن للخدمات المهنية غير مقبول، ويعود ذلك بشكل كبير إلى أن "معظم الأفراد والمؤسسات لا يستطيعون تحمل تكاليف خدمات متخصصين من الطراز الأول". لو استطاع الناس العاديون ببساطة طرح استفساراتهم القانونية عبر "شات جي بي تي" والحصول على إجابات موثوقة، ألن يكون المجتمع أفضل حالاً؟

ربما، لكن هذا طرح شرطي فضفاض جداً. في سلسلة من الأوراق البحثية، شاركت فيها مجموعة متنوعة من المؤلفين، اختبر جوناثان هـ. تشوي من كلية الحقوق في جامعة واشنطن أداء النماذج اللغوية الكبيرة في مهام قانونية مختلفة. إنها بارعة في المهام البسيطة ذات الإجابات المباشرة، لكنها تواجه صعوبة في التعامل مع التعقيد والغموض.

في أحدث ورقة عمل له بعنوان "نماذج اللغة الكبيرة قضاة غير موثوق بهم"، يصف تشوي كيف أن الاختلافات الطفيفة في صياغة التوجيهات تُنتج اختلافات هائلة في إجابات الأسئلة القانونية، وكيف تُقدم النماذج المختلفة إجابات مختلفة تماماً أيضاً. كما يشير تشوي إلى أن هذه المشكلات قد تكون متأصلة في تقنية النماذج اللغوية الكبيرة، وبالتالي لن تُحل قريباً. لذا، قد يبقى المحامون معنا لفترة من الوقت. ولا يتضح بعد كيف ستُدفع رواتبهم.


كاتب عمود في "بلومبرغ"، يغطي الأعمال. ومدير تحرير مجلة هارفارد بيزنس ريفيو، وكتب لمجلة تايم، فورتشن وأمريكان بانكر سابقا


خاص بـ "بلومبرغ"

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي