وهمُ الوظيفة الحكومية
كثيراً ما أجد بعض الزملاء ينتقل من وظيفة في القطاع الخاص إلى وظيفة في القطاع الحكومي، أو أنه يرفض من الأساس أن يتقدم لأي وظيفة في القطاع الخاص على الرغم من أن العائد المادي لها أكثر من العائد المادي من الوظيفة الحكومية، وعندما أقوم بسؤال الزميل لماذا انتقلت من القطاع الخاص إلى القطاع الحكومي يجيبني مباشرة: لا يوجد في القطاع الخاص أمان وظيفي، كما أن ساعات العمل في القطاع الخاص أطول وإجازاته أقل ومهامه كثيرة ومسؤولياته متعددة، وفي الوقت نفسه العائد المادي غير مجز ولا يوجد تقاعد.
وفي المقابل عندما أقارن بين دخل بعض زملائي الذين يعملون في القطاع الخاص وبين دخل أساتذتهم الذين قاموا بتدريسهم في الجامعة منذ أكثر من عشر سنوات أجد أن دخل هؤلاء الزملاء أكثر من دخل أعضاء هيئة التدريس في الجامعة، بل إن دخلهم في بعض الأحيان يساوي دخل موظف حكومي بمرتبة وزير. ولا شك أن مقابل هذا الدخل هناك جهد ومسؤولية وعمل ولكن في الوقت نفسه تجد كثيرا من الموظفين الموجودين في القطاع الحكومي يبذلون الجهد نفسه ويعملون ليل نهار ولكن العائد المادي بالنسبة لهم لا يوازي العمل الذي يبذل، مما يجعلهم في بعض الأحيان يلجؤون إما إلى الإهمال أو إلى الجريمة.
وبالمقارنة بين الوظيفة الحكومية والوظيفة في القطاع الخاص، فهناك العديد من السلبيات والإيجابيات لدى كل طرف، ولكن في اعتقادي أن الإنسان إذا استطاع أن يحصل على مؤهل علمي متميز ووفقه الله أن يجد شركة خاصة لها تاريخها العريق ومنهجها الإداري المتميز وقيادتها المتمكنة العادلة ومناخها الصحي، وكان هذا الإنسان جاداً وعملياً وطموحاً وصابراً، فإن مستقبل عمله في هذا القطاع الخاص أفضل بكثير من الوظيفة الحكومية، حيث سيجد المرونة في العمل والتغيير والتطوير وكسب الصلاحيات وتعديل الأنظمة وتوسيع النشاط وتطوير قدراته ومهاراته من خلال التدريب واكتساب خبرة كبيرة لا تقدر بثمن والشعور بقيمته ضمن نظام مؤسسي يعمل ويلمس في كل يوم أن له نتائج واضحة يعتز بها في هذه المؤسسة، وفي الوقت نفسه تدرجه في السلم الوظيفي وزيادة حوافزه، بل وزيادة قيمته داخل الشركة أولاً وخارجها ثانياً، بحيث تصبح قضية الأمان الوظيفي معكوسة فليس الموظف هو القلق أن تنهي الشركة خدماته بل الشركة تكون قلقة من أن يتركها الموظف لما له من دور بارز فيها.
كثير من الزملاء الذين عملوا في القطاع الخاص بدأوا كمتدربين إداريين وكانت رواتبهم في البداية محدودة للغاية، ولكنهم صبروا وهم اليوم في مناصب قيادية في شركات محلية وعالمية، وجميعهم يؤكد أن هناك جهدا وتعبا وعملا لكن في المقابل هناك تقدير من قبل الشركة لذلك وحافز مادي مجز للجهد المبذول، وعلى الرغم من وجود شركات في القطاع الخاص لا تقوم بهذا الدور ولا تحرص على أن تكون منصفة مع موظفيها ولا تقدم عروضا مميزة لموظفيها، إلا أن هذه القضية تبقى مرهونة بيد الموظف الذي رضي منذ البداية في أن يعمل في هذه الشركة.
الغريب في الوظيفة الحكومية أنها في كثير من الأحيان لا تفرق بين الموظف المجتهد المتفاني الذي يكد ويعمل ليل نهار وبين الموظف الكسول الخامل الذي لا يعترف بدوام عمل ولا بمسؤوليات، فالكل في نهاية الشهر يتسلم الراتب نفسه، ولو قام أمثال هؤلاء المجتهدين بنصف جهودهم في بعض شركات القطاع الخاص لوجدوا أضعاف عوائدهم المادية.
إن نصيحتي لزملائي الخريجين ألا يجعلوا الوظيفة الحكومية نهاية المطاف بالنسبة لهم وأن يطرقوا باب القطاع الخاص، وأن ينتقوا الوظيفة المناسبة لهم فيه وأن يطوروا أنفسهم ويتقنوا ما يكلفوا به من عمل ويصبروا في البداية وسيجدون ثمرة عملهم أمامهم، خصوصاً إن أحسنوا انتقاء الشركة التي يعملون فيها وحققوا غاية أصحابها، فالشركة في نهاية المطاف يملكها تجار وهؤلاء يسعون لتعظيم أرباحهم وسيقفون مع كل من يسهم في تحقيق هدفهم والوصول إلى غايتهم.