التنوع التاريخي في روما والقاهرة آثار الرياض فرصة للمستثمرين
ينتابك القلق في مدينة لا تمتد جذورها في أعماق التاريخ. فكما يبحث الإنسان في أصوله، ويحرص على تدوين امتداده، فكذلك يكون (أو ينبغي أن يكون) الحال مع مدينته. فالامتداد التاريخي يكسب المرء ثقافة العمق والاستمرار التي تعينه على تجاوز المنعطفات الحرجة في تسطح الثقافة المعاصرة أو خلوها من العمق الذي ازدهر عبر حقب التاريخ المتعاقبة.
مدينتا روما والقاهرة على سبيل المثال نموذجان للتنوع التاريخي والامتداد الزماني الثقافي في عصور مختلفة فحين تكون في روما تجدك تنتقل من روما الرومانية، إلى روما العصور الوسطى، إلى روما عصر النهضة، إلى روما القرن التاسع عشر، إلى روما الحديثة، ولكل عصر منها رموزه، وفنونه، وتماثيله، وطرازه المعماري، ولكل ارتباطاته وتغذيته لروما المعاصرة، ولزائريها. وكذلك فحين تكون في القاهرة تجدك تتردد بين القاهرة الفرعونية، والقاهرة القبطية، وقاهرة الفاطميين، وقاهرة العثمانيين، وقاهرة محمد علي، وقاهرة الثلاثية، وقاهرة الملك فاروق، وقاهرة جمال وأم كلثوم، وقاهرة السادات، وقاهرة شعبان عبد الرحيم، ولكل من هذه الوجوه شعوره الخاص، وطبيعته المختلفة، وتمتزج جميعها لتوصل الشعور المكتسب حين تكون في قاهرة اليوم. وهذا الامتداد التاريخي والتنوع الثقافي لا غنى عنه لفهم ثقافة سكان القاهرة، بل وفهم شوارعها وحاراتها. ومن أجل ذلك تبرز هاتان المدينتان (روما والقاهرة) من بين أثرى مدن العالم وأجملها وأعرقها وأمتعها. وكذا الحال في أغلب المدن الأوربية العريقة التي تلزم حاضرها ومستقبلها على المرور من خلال تاريخها، فتستقر الفنادق الجديدة في مبان أثرية تعود إلى قرن أو قرنين من الزمان، لتضيف إلى جمال المدينة عمقاً وعراقة لا تخفى على الزائرين.
أخذت عائلتي قبل فترة قصيرة في جولة سياحية داخل حارات الرياض القديمة، بين شارع الثميري، والعطايف، والظهيرة، نتنقل بين الشوارع الضيقة والحارات المهجورة إلا من العمال، والبيوت المهدمة التي قام مكان أغلبها عمارات جديدة، أو تركت متهدمة على حالها. والحق أنني تألمت لترك هذه البيوت للدمار، وتمنيت لو تمت صيانتها والاستفادة منها كمشاريع استثمارية سياحية. فحارة واحدة، أو مجموعة شوارع يمكن ترميمها وصيانتها واستخدامها كفنادق، ومقاه، ومناطق مشاة لتصبح مزاراً لسكان الرياض وزائريها، ومتنفساً يبث عبق الماضي الجميل، ويزيد من تعميق الشعور بالانتماء لدى سكان الرياض وعمقهم التاريخي والثقافي. وهي فرصة يمكن للقطاع الخاص أن يحولها إلى ثروة بتبني هذه المناطق السياحية الأصلية في قلب العاصمة.
تقع بلادنا في أعرق بقعة من العالم، حيث ولد التاريخ، بعمر يتجاوز 250 ألف سنة. أريد أن أرى رياض حجر اليمامة، ورياض صدر الإسلام، ورياض العصور الوسطى، ورياض القرن التاسع عشر، ورياض الملك عبد العزيز، ورياض الملك سعود، والملك فيصل جنباً إلى جنب مع رياض اليوم. أريد أن تمتزج هذه الصور المتنوعة لمدينة واحدة لتعكس موقعها الحقيقي بين مدن العالم، واحد من منابت الثقافة وينابيع الفنون والآداب. أريد أن أحافظ على معالم الرياض القديمة، وألا تستبدل بمبان بنيت على طراز القديم. فمع نبل هذا الهدف إلا أن البناء الجديد (حتى وإن كان على طراز القديم) لا يماثل البناء الأصلي، ولا يعطي الشعور نفسه بالامتداد التاريخي، والثراء الإنساني.
كم سيكون جميلاً أن تأخذ أطفالك ليزوروا بئر حجر (مكان شارع الوزير حالياً) التي تعود لعصور ما قبل الإسلام، وحصون طسم (ومواقعهم من الملز إلى البطحاء)، وقرى معكال والعود الباقية من دولة بني حنيفة في العصر الأموي، وقصور منفوحة الأعشى، وحصون موقعة اليمامة. كم وددت لو تم الحفاظ على سوق الجفرة، وسوق الحساوية (حيث كان والدي يأخذني لشراء الملابس) وساحة الصفاة القديمة، بأسواقها وميادينها، والجامع الكبير، وجمعت حولها الفنادق والتجمعات التجارية في المباني القديمة ليكون قلب الرياض نابضا بحياة التاريخ في العالم المعاصر، ويرسل رسالة اعتزاز وفخر بأننا لسنا أمة ولدت حديثاً، بل نحن من أعرق وأقدم شعوب الأرض، وتشهد البناءات القديمة والأثرية على هذا العمق، وتغذيه، وتكسبه الامتزاج مع الثقافة المعاصرة التي تكاد تفقد هذا العمق، وتعاني الهشاشة والسطحية.