حماية المستهلك.. بداية عهد جديد
بدأت اللجنة التأسيسية التي شكلتها وزارة التجارة لجمعية حماية المستهلك عملها الذي يتوقع أن ينتهي خلال أشهر قليلة ليبدأ عهد جديد لحماية المستهلك في المملكة طال انتظاره، حيث إن المملكة تعد من أواخر دول العالم في تأسيس مثل هذه الجمعية التي تلعب دورا مهما في حماية المستهلكين وتوعيتهم وتثقيفهم ومنع جشع التجار وتضليل الدعايات التسويقية والغش والتدليس.
إن الجمعية الوليدة التي سبقتنا إليها دول كثيرة حتى في محيطنا العربي مثل: عُمان, اليمن, مصر, الأردن, وسورية وغيرها من الدول, التي وصل عددها في الاتحاد الدولي لجمعيات حماية المستهلك إلى أكثر من 170 دولة, ستنهي حقبة طويلة كانت وزارة التجارة تقوم بمهامها لدينا. رغم التعارض الواضح الذي أراه بين وظائفها الأساسية كجهاز حكومي أنيط به الإشراف على النشاط التجاري وتشجيع المنشآت التجارية وبين مهام حماية المستهلك التي لها علاقة وطيدة بالمنشآت التجارية كذلك لكن بشكل معاكس تماما.
إذا ما تم استعراض تاريخ حماية المستهلك على الصعيد الدولي فسنجد أن ظهور الجمعيات التي تخصصت في مثل هذا المجال بدأ في الثلاثينيات من القرن الماضي بشكل غير منظم, وتبلور في الخمسينيات وتم إصدار أول مجلة منتظمة بعنوان "تقارير المستهلكين" في ذلك الوقت, وفي الستينيات تكونت جمعيات لحماية المستهلك في كل من إنجلترا, هولندا, وبلجيكا ومن ثم تم إنشاء الاتحاد الدولي لجمعيات حقوق المستهلك عام 1960 الذي وصل عدد أعضائه إلى نحو 600 عضو من 170 دولة.
وفي عام 1962 أعلن الرئيس الأمريكي جون كنيدي المبادئ الأربعة لحماية المستهلك, وأضاف الرئيس الأمريكي جيرالد فورد مبدأ خامسا في السبعينيات, ومن ثم صدر عن الأمم المتحدة عام 1985 قرار يتضمن المبادئ الإرشادية لحماية المستهلك.
أما على الصعيد العربي فقد تأسس الاتحاد العربي لحماية المستهلك عام 1997, وهنا لا بد أن أشير إلى أن دولة مثل الهند توجد فيها 25 جمعية لحماية المستهلك, أما البرازيل فتوجد فيها 60 جمعية وفي ألمانيا الاتحادية توجد وزيرة لشؤون المستهلك.
إن حماية حقوق المستهلك مكفولة في الشريعة الإسلامية, حتى وإن تطورت أساليب التجارة والمعاملات التجارية كما هو الحال اليوم, فالإطار العام لحفظ حقوق ما يسمى اليوم "المستهلك" ينسحب على جميع ما له علاقة بحمايته من الغش والتدليس, بل وضعت الشريعة الإسلامية إطاراً للعاجز عن حفظ حقوقه كما بينت آية الدين, وهي أطول آية في القرآن الكريم, ونستشف أيضا أن المبادئ الثمانية لحقوق المستهلك التي تعد اليوم الأساس لعمل منظمات وجمعيات حقوق المستهلك في العالم أشارت إليها الشريعة الإسلامية قبل 14 قرناً, وقبل أن يعلنها الرئيس الأمريكي جون كنيدي, ولعل حديث الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي قال فيه "لا يحل لأحد أن يبيع شيئاً إلا بيّن ما فيه, ولا يحل لأحد يعلم ذلك إلا بيّنه" يمثل قواعد حماية المستهلك التي تنادي بها منظمات حماية المستهلك اليوم بل ربطت تلك القواعد بالثواب والعقاب الأخروي الذي يوليه المسلمون اهتماما كبيراً ويحكم تعاملاتهم بشكل كبير.
اليوم لم تعد الجهات الرسمية المنوط بها مراقبة الأسواق وكشف الغش والخداع والتدليس قادرة على القيام بهذا الدور بمفردها, خصوصاً مع التطور الصناعي والتجاري وانفتاح العالم وبروز العولمة ودخول وسائل الإعلان والتسويق للمنازل وتأثيرها في الناس وتوجهاتهم فيما يتعلق بتوفير احتياجاتهم, وارتفاع عدد السلع المعروضة لمئات الآلاف وظهور تطورات علمية كثيرة أحدثت تغيرات في طرق الإنتاج والحفظ والتخزين, وما يثار عن المنتجات المعدلة وراثياً, إذ إن هذه التطورات أسهمت في خفت صوت المستهلك الواحد لدرجة لا يكاد يسمع حتى أنينه, إضافة إلى ضعف وعيه الاستهلاكي وعدم قدرته على كشف الغش والخداع بمفرده وبالتالي لم يعد بإمكانه أن يؤثر في قرارات المنتجين أو إيقاف الحملات الدعائية المضللة له وحماية نفسه, هذا الأمر اكتشفه الغرب قبل عقود, ولم يجد طريقة لحماية المستهلك إلا بإنشاء جمعيات ومنظمات مستقلة تحفظ حقوقه وتدافع عنه وتثقفه وترفع الدعاوى القضائية على المنتجين نيابة عنه, وتنسق مع جميع الجهات ذات العلاقة لتحقيق أهدافها.
لذا فإن تأسيس جمعية مستقلة لحماية المستهلك سيعمل على الرفع من مستوى جودة السلع والخدمات وسيمنع تداول الضار منها وسيكفل حصول المستهلك على حقوقه إذا ما تم الإضرار بصحته من قبل المنتجين, وسيوقف تدفق تلك السلع الرخيصة التي لفظها العالم المتقدم لأسواقنا المحلية, وفي نهاية الأمر فإن المستهلك سيطمئن أكثر في ظل وجود مثل تلك الجمعية, وسيوصل صوته قوياً للجهات المختصة وللمنتجين في آن واحد.