البطالة ثم البطالة أكبر دافع للإجرام والفساد

لا يزال هناك من يشكك في إحصاءات ونسب البطالة المعلنة, وهناك من يقول إنها أكثر بكثير مما تعلنه الجهات الرسمية, أي أنها تتجاوز نسبة 11 في المائة بين الذكور و27 في المائة بين الإناث. ويستند المشككون إلى أنه ليس هناك تسجيل دقيق للعاطلين, ومن يدخل سوق العمل منهم ومن يخرج, خاصة بين الإناث. والثابت أن نسب البطالة لدينا متحركة, وأن كثيرا ممن يحصلون على فرص عمل يتركونها بحثا عن فرص أفضل. كما أن من الثابت أن نسب البطالة تزداد بفعل عاملين رئيسين, الأول: زيادة ما تقذف به الجامعات والمدارس من خريجين عاما بعد عام, والثاني زيادة عدد الوافدين إلى المملكة, إما برضانا عن طريق الاستقدام المتزايد الذي بلغ 1.7 مليون عامل عام 2007 كمثال, وإما رغما عنا جراء التخلف بعد الحج والعمرة, أو التسلل عبر حدود المملكة الواسعة, بأعداد غير قابلة للحصر, لكن شواهدها كثيرة حتى في رؤوس الجبال.
ومهما تكن النسب, دعونا نقر بما أقرت به الجهة الرسمية (وزارة العمل) ونقول إن هناك 450 ألف عاطل وعاطلة عن العمل ("الوطن" 11/2/1429هـ), ألا يكفي هذا لإثارة الفزع والدهشة في بلد يؤي ما لا يقل عن سبعة ملايين عامل في المجالات نصفهم, على الأقل, لا يحملون ما يحمله أبناؤنا العاطلون من مؤهلات؟ ثم أليس من التجني أن يقال إن المواطنين, وبخاصة حملة الثانوية العامة, غير مؤهلين لسوق العمل؟ ألا يعطي ذلك مبررا لمنشآت القطاع الخاص لرفضهم واستقدام غيرهم, بعد أن دفع هذا المبرر ذاته وزارة العمل إلى إلغاء نسبة العمالة الوطنية المشترطة في بعض المجالات, أو تخفيضها إلى نسب متدنية؟ وإذا كان حملة الثانوية العامة لدينا لا يصلحون فكيف صلح الملايين غيرهم ممن لا يحمل هذا المؤهل؟ بعد أن مارسوا التدريب وأحيانا التخريب في اقتصادنا؟ أليس المواطن أولى بالاحتضان والتدريب على طبيعة العمل من غيره؟
تأملوا في بعض الأمثلة الحية حولنا لتدركوا أن العيب ليس في المواطن كمواطن, إذ لا يفرقه عن غيره شيء من حيث القدرات, لكن في وضع كوضعنا تحكمه المفارقات العجيبة, لن يقبل صاحب العمل على توظيف المواطن إذا كان سيحصل على إذن باستقدام غيره بثلث راتبه, ألم تروا أن معظم قطاعات الأعمال تتجه, بمساعدة الجهة المسؤولة عن الاستقدام, إلى إحضار أرخص عمالة على وجه الأرض, وإخواننا البنجاليون أقرب مثل, وعندما يأتون يجدون أن راتب 400 أو حتى 500 ريال لا يكفيهم, وهناك فرص كبيرة لزيادة دخلهم, فيهربون وينخرطون في ممارسات إجرامية لا حصر لها, أشغلت سلطات الأمن بملاحقتها والتحقيق فيها, ثم ألم يقبل المواطن على العمل في منشآت استقبلته ببرامج تدريبية انعكست على زيادة مهارته وإنتاجيته واستقراره, كمثل "سابك", و"الزامل" و"عبد اللطيف جميل" وبعض البنوك, في حين أن معظمهم لا يتجاوز مؤهله الثانوية العامة؟
قبل أيام أعلنت الشركة الجديدة للهاتف المتنقل (زين) أن عدد المواطنين المتقدمين لها بطلب العمل بلغ 65 ألف شخص, وقبلها وبعدها يلاحظ أنه عندما تعلن أي جهة, حكومية أو أهلية, عن طلب توظيف حتى على مستوى جندي, فإن عدد المتقدمين يفوق المتوقع ويحتاج الأمر, أحيانا, إلى مساعدة أمنية لتنظيم الجموع, ألا يدل ذلك على نمو وتزايد البطالة وتلهف المواطن ورغبته في العمل؟ وهل يعقل أن يوجد مواطن لا يجد ما يقتات منه ويرفض العمل؟
والحقيقة التي لا يمكن تجاهلها, هي أن هناك علاقة وثيقة بين البطالة وانتشار الجريمة, بحيث تعد المحرك الأول لارتكاب جرائم السطو والسرقة والابتزاز, وهي الدافع لممارسة أعمال محظورة مثل ترويج المخدرات والممنوعات والتزوير, كما أنها تعد سببا رئيسا في إشغال السلطات الأمنية وانشغالها في استقبال البلاغات عن الجرائم الناشئة عنها وملاحقة مرتكبيها, ولو لم تكن هذه المشكلة موجودة لتفرغت السلطات لمهماتها الأمنية الأخرى. وها نحن نرى كم من فرقة ورجل أمن يستنفر عندما ترتكب جريمة واحدة بسبب البطالة وأقربها ما حدث لأحد قضاة محكمة الرياض قبل أيام عندما اختطفه ستة من الشباب العاطلين من أجل الابتزاز والسلب ("الرياض" 5/3/1429هـ), والغريب أن نجد من يلقي ببعض اللوم على السلطات الأمنية في تكاثر مثل هذه الجرائم, وكأن بإمكان السلطات توفير عسكري لمرافقة كل مواطن, متناسين السبب وراء ذلك وهو البطالة, وأن سلطات الأمن تبذل جهودا غير عادية في تعقب المجرمين والقبض عليهم خلال أوقات وجيزة, والأغرب من ذلك أننا, وفي المقدمة سلطات الأمن, نعرف المنبع ولا نروم له سدا.
لقد كتبت عن مشكلة البطالة خمس مرات ("الاقتصادية" 17 و24/1/28, و3/3 و12/3 و3/4/1427هـ) بدافع وطني وإبراء للذمة, شخصت فيها المشكلة برؤية المراقب المحايد, وقلت فيها ما سوف أسأل عنه أمام الله إن لم يكن صدقا, ويهمني بطبيعة الحال أن يلقى بعض التجارب, ولو بالاعتراف بوجود الخطأ كمقدمة لإصلاحه, لكنني أشعر بالأسى وأنا أرى الأمور تتدهور عندما أتأمل واقع العمل والعمالة والبطالة, وتعود بي الذاكرة أحيانا, عندما كان الاستقدام من شؤون وزارة الداخلية, ويعلق الناس بكلام كبير على ما يجري في محيطه, وعندما توحد في يد جهة واحدة أصبح الكلام أكبر, والضغط أكثر, إلى أن خارت قوى الوزارة العتية من شدة الطرق, وتكسرت النصال على النصال, وغلبت الكثرة الشجاعة, إلى أن آثرت, هي ذاتها, تبرير فتح الأبواب على مصاريعها للاستقدام حتى لا تحمل نفسها وزر الخطأ في حق الوطن.
باختصار , وبعيدا عن متاهات الكلام التي يجيدها البعض منا, لدينا مليون فرصة عمل على الأقل كبائعين في سوق التجزئة, يمكن أن تستوعب نصف المليون الذي قيل إنه عدد العاطلين, امسكوا أي شارع من شوارع العاصمة أو غيرها وامشوا فيه من أوله إلى آخره وتأملوا في وجوه البائعين, من بائع الأثاث إلى بائع البيبسي, هل تجدون مواطنا واحدا؟ وهل تلمسون صعوبة في أن يقوم المواطن, ليس حامل التوجيهية فحسب, بل من هو أقل بمثل هذا العمل؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي