لماذا تفشل محاولات تأسيس جبهات وطنية عربية
بتنا نسمع كثيراً خلال الفترة الماضية القريبة في عديد من دول العالم العربي، سواء في مصر أو لبنان أو الجزائر أو غيرها، أحاديث ودعوات من قادة وقوى وأحزاب سياسية لتشكيل "جبهة وطنية واسعة" لمواجهة التطورات الجديدة المهمة التي بات العالم يشهدها منذ هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001 التي يشهدها معظم البلدان العربية في الفترة نفسها. وبدت دوافع إنشاء تلك الجبهة لدى الداعين إليها متشابهة في معظم الحالات العربية، فهي تتوجه أساساً إلى حماية البلدان والمجتمعات العربية من تأثيرات "العامل الخارجي" في تطورها ومساراتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، الذي راحت أهميته تتزايد بصورة واضحة خلال السنوات التي تلت هجمات أيلول (سبتمبر). كذلك طرحت تلك الجبهة في معظم البلدان العربية من أجل تقديم حلول عاجلة لها تخرجها من أزماتها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المركبة التي أوصلت البعض منها إلى مستويات مقلقة من التطور السياسي والاجتماعي والاقتصادي.
وقد حظي مجال الإصلاح السياسي بالاهتمام الأكبر في معظم مشروعات الجبهة الوطنية في غالبية الدول العربية، على الرغم من عدم تضمن برامجها العناصر الضرورية لتحقيق هذا الإصلاح. كذلك، فبغض النظر عن مضامين البرامج المختلفة للجبهات التي طرحت خلال الفترة الماضية، فهي لم تتسم عموماً بالخصائص الأساسية التي يجب عادة أن تتسم بها برامج الجبهات الناجحة الفاعلة. فالخاصية الأولى الضرورية للبرنامج، بأنه يمثل الحد الأدنى الذي تتفق عليه القوى الوطنية الرئيسية في مجال محدد، وهو هنا مجال الإصلاح السياسي وحده دون غيره في اللحظة الراهنة، لم تكن حاضرة بوضوح في معظم برامج الجبهات العربية، كذلك فإن يكون البرنامج المشترك ممكن التنفيذ وضمن مخطط زمني واضح ومتفق عليه، وهي الخاصية الثانية الضرورية، غابت أيضاً عن معظمها حيث تضمنت المطالب والتصورات القصوى لكل من القوى والتيارات المشاركة في وضع البرنامج كما تضعها في برامجها الخاصة بغض النظر عن إمكانية وسرعة تطبيقها. وأخيراً غابت الخاصية الثالثة لأي برنامج جبهوي ناجح وفاعل، وهي أن يمثل هذا البرنامج وبنوده التفصيلية قاعدة ضرورية وأولية يمكن البناء عليها مستقبلاً، وأن يكون بمثابة بوابة واسعة ومفتوحة لمزيد من التغيرات المستقبلية ليس فقط في مجاله الرئيسي، أي الإصلاح السياسي، بل في كل المجالات الأخرى التي هي في أشد الحاجة أيضاً للإصلاح والإنقاذ.
والأرجح أن غياب تلك الخصائص الأساسية الضرورية لنجاح وفاعلية أي برنامج أو مشروع للجبهة الوطنية يعود في جزء رئيسي منه لطبيعة العلاقات المعقدة بين الأطراف السياسية التي تتصدى معاً لمحاولات تشكيلها في عديد من البلدان العربية، وسيطرة الخلاف بل الصراع على تلك العلاقات أكثر من التفاهم والتعاون. كذلك فمن الواضح أن الملامح الحقيقية والواقعية لطبيعة الأوضاع الراهنة التي بات العالم كله وإقليمنا ودولنا العربية يعرفونها خلال السنوات السبع الأخيرة، تبدو غير واضحة لمعظم القوى المشاركة في مشروعات الجبهات الوطنية، فأتى معظمها أقرب لإعلانات النوايا والمواقف منها للرؤى التحليلية والواقعية.
فبغض النظر عن اختلاف الرؤى والتقديرات لطبيعة اللحظة الحالية من التطور العالمي والإقليمي والمحلي العربي، فهي تتسم بعديد من الملامح الرئيسية التي لم تظهر آثارها واضحة في مشروعات تلك الجبهات. فهناك الملمح الأول الرئيسي، وهو وجود فوضى إقليمية عارمة تجتاح العالم العربي ومنطقة الشرق الأوسط ومنطقة الخليج ومناطق أخرى في العالم الإسلامي وبخاصة في قطاعه الآسيوي، بعد الغزو الأمريكي لأفغانستان والأمريكي – البريطاني للعراق. كذلك فهناك الحضور الطاغي للولايات المتحدة في معظم مناطق العالم بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وسعيها لإعادة تشكيل النظام الدولي بما يحقق لها مصالحها الاستراتيجية المادية الكبرى. وبالتوازي مع ذلك بدا واضحاً أيضاً في ظل ذلك الحضور الأمريكي الطاغي، السعي الأمريكي الحثيث من أجل إحداث تغييرات جذرية ليس فقط في النظام الدولي، بل بداخل المجتمعات المحلية في العالمين العربي والإسلامي، بما يحقق لها نوعا جديدا من المصالح الاستراتيجية الكبرى التي وضعتها تلك الإدارة ويمكن تسميتها المصالح الأيديولوجية التاريخية. فبكلمات مباشرة تسعى تلك الإدارة إلى تطبيق سريع ومباشر لنظرية فرانسيس فوكوياما حول "نهاية التاريخ" والتي تبشر بالانتصار النهائي والحاسم للنموذج الغربي – الرأسمالي – الليبرالي في كل مجتمعات البشرية، ولنظرية صمويل هنتنجتون حول "صراع الحضارات" بحيث تحسم لصالحها في المرحلة الأولى ذلك الصراع المتوقع مع الحضارة الإسلامية لتتفرغ بعد ذلك لحسمه مع الحضارتين الروسية الأرثوذكسية والصينية الطاوية.
بالنظر إلى كل ما سبق، يبدو لنا أن سر إخفاق معظم مشروعات الجبهات الوطنية التي طرحت خلال السنوات الأخيرة في عديد من البلدان العربية لمواجهة التطورات الأخيرة التي يشهدها العالم وإقليمنا، هو افتقادها عاملين معاً: الخصائص الداخلية الأولية لأي برنامج جبهوي ناجح، وعدم إدراكها الدقيق لطبيعة التحولات الكبرى العالمية والإقليمية التي بتنا نعيش في ظلها خلال السنوات السبع الماضية. ويبقى السؤال قائما: هل يدرك الداعون والقائمون على مثل تلك الجبهات أسباب الفشل الحقيقية فيعيدون النظر في مشروعاتها وبرامجها، أم أنهم سيواصلون ما اعتادوا عليه خلال السنوات الطويلة التي قضوها جرياً وراء تشكيل مثل تلك الجبهات وفشلاً في تحقيق هذا الأمل؟