أعضاء الشورى والإفصاح

في الأسبوع الماضي تناولت في مقالة ("الاقتصادية" في 26/2/1429هـ) التقليد الذي أرسته شركة أرامكو السعودية منذ عدة عقود بإلزام جميع موظفيها الإفصاح عن أي نشاط تجاري أو ما شابه مما قد يفضي إلى تعارض في المصالح بين الوظيفة وذلك النشاط. وأشرت إلى الأسباب التي تجعل من تلك السياسة التي تطبقها أرامكو وتجربتها في أخلاقيات العمل جديرة بالتقويم والإفادة منها في مؤسسات الدولة لما لذلك من منافع للمجتمع وحماية لحقوقه عندما يمارس حركته في بيئة تسودها شفافية غير منقوصة وتضبطها معايير نزاهة يمكن قياسها ومن ثم مقارنتها.

ذلك التقويم لتجربة أرامكو السعودية وغيرها من التجارب في اخلاقيات العمل لابد له من يتبناه بشكل منظم له مرجعية قادرة على تأسيس تلك الثقافة ونشرها عبر تشريعات متدرجة في مؤسسات المجتمع الحكومية والمدنية. وأحسب أن مجلس الشورى لديه من الأدوات والخبرات ما يجعله خياراً كفءًً للتصدي لتلك المهمة ووضع نظام لها من خلال المادة الثالثة والعشرين من نظام المجلس، بعد تعديلها في عام 1424هـ، التي خولته صلاحية " اقتراح مشروع نظام جديد، أو اقتراح تعديل نظام نافذ ". إذ لا ينبغي أن تترك قضية مهمة كقضية أخلاقيات العمل والإفصاح ساحة للاجتهادات الفردية دون تنظيم وضوابط يحتكم إليها الجميع.

ولعل المجلس يرى في ذلك السياق، إلى جانب تقويم تلك التجارب وتنظيمها، أن يقدم نفسه قدوة للآخرين بإلزام أعضائه ومنسوبيه بمعايير عالية من الإفصاح ووضع آلية لمتابعة الالتزام بتلك المعايير بشكل دوري. ذلك أن إلزام أعضاء مجلس الشورى ومنسوبيه بمبدأ الإفصاح أمر ليس صعب المنال نظاماً، إذ نصت المادة الثانية من نظام المجلس على أنه " لايجوز لعضو مجلس الشورى أن يستغل هذه العضوية لمصلحته "، ونصت المادة التاسعة من النظام نفسه على أنه "لا يجوز الجمع بين عضوية مجلس الشورى وأي وظيفة حكومية، أو إدارة أي شركة، إلا إذا رأى الملك أن هناك حاجة لذلك ". كما صدرت أوامر سامية لاحقة بعدم السماح لعضو المجلس العمل كمستشار لدى الوزارات أو أي من الجهات المرتبطة بها.
يتضح من ذلك أن نظام المجلس قد احتاط لقضية تضارب المصالح ما يدعو إلى وضع آلية للإفصاح ولاسيما أن بعض الأعضاء يمارسون أعمالاً تجارية أو يتمتعون بعضوية مجالس إدارات هيئات أو شركات عامة وخاصة إما لذواتهم أو كممثلين للحكومة، وهو أمر لا غبار عليه مادام الآخرون على علم به عند مناقشة مشروع نظام مثلاً قد يؤثر في نشاط تلك الشركات أو الهيئات. إن تلك الفرضية لتضارب المصالح ليست من الاحتمالات البعيدة، بل هي أمر وارد في ظل المراجعة الشاملة التي تجريها المملكة للأنظمة والتي لابد أن تمر عبر مجلس الشورى قبل إقرارها من ولي الأمر.
هناك فرصة تاريخية أمام مجلس الشورى لتبني مدونة أخلاقيات عمل ترتكز على برنامج إفصاح دقيق لتأسيس ذلك السلوك الحميد في المجتمع، وقد وفرت الدولة تقنيات راقية للمجلس يمكن تسخيرها في تطبيق ذلك البرنامج. إذ أن المعلومات والعلاقات المهنية لأي عضو يمكن برمجتها بحيث تبث تلقائياً ومباشرة على الشاشة الرئيسة في قاعة الجلسات كل ما أُعطي الدور لذلك العضو للحديث ما يجعل الأعضاء الآخرين والجمهور بشكل عام مطمئنين لحيادية الطرح واستقلالية الحوار. إن بسط تلك المبادرة من قبل المجلس على أبصار الملأ سيقدم قدوة صالحة لكل مواطن ليس فقط عن طريق القراءة أو السماع بل عن طريق المشاهدة أيضاً وهي أكثر وقعاً وإقناعاً.
إن الهدف من مطالبة أعضاء مجلس الشورى بالإفصاح عما قد يكون لهم هناك من علاقات مهنية أو تجارية خارج نطاق المجلس ليس المقصود به تقييد حركة العضو في الحياة العامة بل إن العكس هو الصحيح. إذ أن مشاركة العضو في مناشط متعددة خارج المجلس تثري خبراته التراكمية التي يمكن تجييرها لصالح الحوار الذي يدور تحت قبته وفي أروقة لجانه, غير أن من حق الجمهور والأعضاء الآخرين في المجلس أن يكونوا على بينة بتلك العلاقات والمناشط وفق إطار منضبط ومعايير إفصاح موحدة.
لقد حقق مجلس الشورى في السنوات الماضية منذ إنطلاقة دورته الأولى في عام 1414هـ الكثير من الإنجازات اكتسب خلالها ثقة خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز بتوسعة قاعدة المشاركة في عضويته التي بلغت (150) عضواً في الدورة الحالية، ومنحه المزيد من الصلاحيات وأهمها حق المبادرة في اقتراح أنظمة جديدة و تعديل أنظمة قائمة بينما كان ذلك الإجراء في الماضي مقيداً بالموافقة المسبقة من الملك. تلك التطورات الإيجابية يضاف إليها نقل مقتطفات من جلسات المجلس إلى الجمهور تليفزيونياً، تعد أسباباً موضوعية تدعو المجلس إلى تعزيز تلك الثقة بتبني معايير إفصاح يلتزم بها أعضاؤه ومنسوبوه على ألا تقل تلك المعايير وآليات متابعتها عما هو معمول به في المؤسسات البرلمانية الموازية لمجلس الشورى في الدول التي سبقتنا في ذلك المضمار.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي