الموقف الأمريكي وصيغ العودة
drashwan59@yahoo .com
انتهينا في المقال السابق إلى أن تصريحات الرئيس الأفغاني حامد قرضاي بشأن استعداده للتفاوض من دون أي شروط مع كل من الملا محمد عمر زعيم حركة طالبان وقلب الدين حكمتيار زعيم الحزب الإسلامي المتحالف معها، تعكس تغيراً عميقاً في الموقف الحكومي الأفغاني التقليدي وأنها تشير إلى قبول عودة طالبان بصيغة من الصيغ للحكم في أفغانستان، وهو الأمر الذي ما كان يمكن أن يطرح من دون مساندة دولية وأمريكية بصفة خاصة, وذلك للمرة الأولى منذ الإطاحة بـ "طالبان" من الحكم عام 2001.
والحقيقة أن السؤال الرئيسي الذي يطرح نفسه هنا يتعلق بالدوافع والأسباب التي أدت بالإدارة الأمريكية إلى التأييد الضمني لمقترحات الرئيس الأفغاني حامد قرضاي بالتفاوض مع الزعيمين الأفغانيين الأكثر عداوة لواشنطن، وهو التأييد الذي عبر عنه صراحة الرئيس الأفغاني بقوله إنه بحث أمر هذه المفاوضات المباشرة مع كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش والأمين العام للأمم المتحدة بان كي-مون أثناء زيارته الأخيرة الولايات المتحدة. والأرجح في ذلك السياق أن أول دوافع تغير الموقف الأمريكي بهذه الصورة الدراماتيكية هو الأوضاع العسكرية والسياسية شديدة السوء التي تعانيها القوات الأمريكية في العراق وبصورة أقل قليلاً في أفغانستان، حيث يبدو واضحاً أن "عقدة" التورط في العراق تأخذ في الاستحكام في داخل الرأي العام والنخبة الأمريكيين، بحيث يهيمن على الإدارة بأجنحتها كافة تساؤل وحيد يدور حول كيفية الخروج بأقل خسائر منه. وبينما تزداد هيمنة العقدة العراقية على صانعي القرار في واشنطن، تبدو لهم الأوضاع في أفغانستان في ظل التقدم العسكري المطرد لحركة طالبان وحلفائها على الأرض وعدم قدرة قوات التحالف الغربية والقوات الحكومية على الوقوف أمامه، بمثابة إنذار بتورط مواز في هذا البلد ترجحه كل المؤشرات العسكرية والسياسية منذ أكثر من عام. ومن هنا، فإن رغبة الإدارة الأمريكية في عدم تكرار العقدة العراقية في أفغانستان ومضاعفة المأزق الأمريكي تبدو واضحة وراء مساندة الرئيس بوش شخصياً مساعي الرئيس الأفغاني نحو الدخول في مفاوضات مع حركة طالبان وحليفها الحزب الإسلامي لتجنب الوصول إلى وضع مشابه لما وصلت إليه القوات الأمريكية والغربية والحكومية في العراق.
كذلك, فمن ناحية أخرى, لا يغيب أثر الخلافات التي تعصف بدول التحالف الغربي, بخاصة ضمن حلف الأطلنطي حول الأوضاع في أفغانستان على الموقف الأمريكي المائل لمساندة التفاوض مع "طالبان" وحلفائها. فكما هو معروف فإن الإخفاقات العسكرية المتتابعة للقوات الغربية والحكومية أمام "طالبان" دفعت الإدارة الأمريكية إلى البدء أولاً بخيار تصعيد المواجهة العسكرية معها وهو الأمر الذي كان يستلزم زيادة محسوسة في عدد وتجهيزات قوات حلف الأطلنطي في أفغانستان، وهو ما سعت إليه واشنطن عبر عديد من اجتماعات وقمم دول الحلف خلال العام الحالي. إلا أن تردد عدد من تلك الدول في إرسال مزيد من قواتها إلى أفغانستان وتردد دول أخرى في الموافقة على تحريك قواتها الموجودة هناك إلى مناطق القتال المشتعلة، وفي مقدمتها ألمانيا, فرنسا, وإسبانيا، دفع واشنطن على ما يبدو إلى إعادة حساباتها في ظل التقدم العسكري المتواصل لـ "طالبان" وحلفائها بحيث راحت تميل إلى حل تفاوضي معها في الوقت الذي راحت أوهام الحسم العسكري معها تتراجع بسرعة. وإلى جانب كل ذلك، فمن المرجح أن الإدارة الأمريكية أدركت متأخرة عبر مؤشرات كثيرة أن حلفاءها المحليين في أفغانستان باتوا غير قادرين على السيطرة على أوضاع البلاد ووقف التدهور المتنامي في كل قطاعاتها الأمنية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية، بينما راحت حركة طالبان تتقدم لكي تملأ الفجوات الواسعة التي تركها هؤلاء الحلفاء وفي مقدمتهم حكومة الرئيس قرضاي وراءهم، فلم تجد بداً من مساندة التفاوض السلمي مع الحركة.
والحقيقة أن توافر تلك الدوافع والأسباب وراء السعي الحكومي الأفغاني ومن ورائه المساندة الأمريكية للتفاوض مع "طالبان" وحلفائها، لا يعني أن الحركة باتت على وشك العودة لحكم أفغانستان منفردة كما حدث في الفترة بين عامي 1996 و2001. فمثل تلك العودة ستكون مختلفة عما حدث في تلك السنوات، حيث إن التحالف بين "طالبان" وتنظيم القاعدة الموجود في أفغانستان, الذي يمثل العدو الأول للإدارة الأمريكية, يمثل العقبة الرئيسية أمام أي صورة لعودة "طالبان"، ومن غير المستبعد في هذا الإطار أن تكون تلك الإدارة تفكر في مقايضة "طالبان" بالموافقة على عودتها إلى حكم البلاد مقابل التخلي عن "القاعدة" وتركها تواجه وحدها القوات الأمريكية والغربية هناك. وبغض النظر عن مدى استجابة "طالبان" لهذا المطلب الأمريكي المركزي، فإن أي عودة محتملة لـ "طالبان" ستكون غالباً ضمن صيغ ذات مضمون توافقي أفغاني ستسعى واشنطن إلى الترويج لها بحيث تضمن حكماً جديداً لأفغانستان يكون لـ "طالبان" فيه النصيب الأوفر ولكن تشترك معها فيها قوى وأطراف أخرى أفغانية ذات علاقات وطيدة مع واشنطن وفي مقدمتها تلك التي يقودها الرئيس قرضاي بنفسه. ويبقى أخيراً التساؤل حول مدى قبول حركة طالبان مثل تلك الأفكار والصيغ الأمريكية لعودتها للحكم، والأرجح أن الحركة لن تقبل أيا منها, بخاصة أن يشاركها أي من أعدائها الحاليين والسابقين حكم البلاد، فهي تعتقد أنها تملك اليوم من الإمكانات والتأييد الداخلي والتقدم العسكري ما يمكنها من الدخول مرة أخرى إلى كابول ظافرة منتصرة من دون أي حاجة إلى قبول تفاوض أو صفقات مع واشنطن أو حلفائها المحليين.