تعليم الحقيقة يؤدي للبلادة!
في حوار راق غير عادي عبر "إضاءات" تركي الدخيل مع الدكتور أحمد العيسى حول التعليم في المملكة، كانت الإجابة التي قالها الدكتور رافضة للتفكير التقليدي حين انتقد تركيز التعليم في فلسفته على توصيل الحقيقة للطالب "سواء كانت هذه الحقيقة حقيقة علمية أو كانت حقيقة دينية أو كانت حقيقة اجتماعية أو كانت حقيقة يعني في مختلف المواد ومقرراتها، ونريد أن نوصل هذه الحقيقة للطالب من خلال التركيز على الحفظ والتلقين والمتابعة والاختبارات وكذا.."، ثم يقول إننا "لم نركز على أنه هل الطالب يكتشف هذه الحقيقة؟ هل الطالب يكوّن الأدوات التي يستطيع من خلالها الاستكشاف والبحث والفهم والمناقشة؟ فهذه الفلسفة هي حقيقة تفقد الطالب قدرته على التعامل مع المتغيرات اللي في المستقبل".
ولكن كلمات الدكتور العيسى تخفي بين سطورها حقيقة صادمة، وهي أن الحقيقة نادرة ومرتبطة بالدين وأساسيات العلم فقط، بينما أكثر ما نعرفه ونعلمه في حياتنا ومجرد حقائق نسبية أو نظريات تمثل أكثر ما نعرف، وتمثل وجهة نظرنا نحو الأشياء، ولطالما ظهرت عبر التاريخ للإنسان أمور يظن أنها حقائق ثم يعرف فجأة أن تلك الحقائق فيها ثغرات وأخطاء وأوهام.
نحن لا نعلم الطالب كيف يتعامل مع الحقائق وكيف يبني قدرة عقلية ناقدة لكل من حوله ليحاكم الكم الرهيب من المعلومات والافتراضات التي تواجهه كل يوم. لهذا السبب تحصل ظاهرة مثل ظاهرة مكائن السنجر وغيرها من ظواهر "بيع الأوهام"، لأن عقولنا لم تتعلم التفكير النقدي، ولهذا السبب يظهر الفكر المتطرف والإرهابي لأن عقل الشاب مستعد لتصديق ما يسمع دون أن يحلله ويبحث عن المنطق فيه، ولهذا السبب تسمع كلاما غير معقول في كل مجلس عام تذهب إليه، لأن الناس تستمتع بتناقل القيل والقال دون الإحساس بمسؤولية تقبله عقليا قبل نقله إلى الآخرين.
لقد أرهق الفلاسفة الغربيون أنفسهم في هذا الموضوع، وكان لهذا وجهه الإيجابي الذي أطلق ثورة علمية ما زال الغربيون يأكلون ثمارها حتى اليوم، وهم في كثير مما صنعوا لم يخرجوا عن تراث الفلاسفة المسلمين ولم يخرجوا عن مبادئ علم المنطق، وانطلقوا في النهاية من التسليم بضعف العقل البشري ومحدوديته من ناحية، وقدرته الجبارة على التطور إذا تم تمرينه على النقد بالشكل الصحيح من ناحية أخرى.
يدخل المعلم إلى الفصل وهو يظن أنه يملك الحقيقة، لذا فهو لا يحتمل فكرة أن يعارضه الطالب أو يناقشه، ولو تظاهر بسماحة النفس فهو يدافع عما يقول وكأنه يعلم الحقيقة ولا يحتاج إلا إلى إقناع الطالب بها. ويخرج الطالب من الفصل بعد 12 عاما من الجهد والاجتهاد في سنوات التكوين، وهو يظن أنه يعرف شيئا ويملك أدوات مواجهة الحياة، بينما هو قد حفظ أمورا سينساها بعد سنوات، بينما الأدوات الأساسية للتعرف على الحقيقة وحل المشكلات والإبداع قد جهلها هو وجهلها أستاذه في كثير من الأحيان.
لدينا الآن اهتمام أفضل بالبحث العلمي في المدارس والجامعات، ولكن البحوث التي نراها هي مجرد جمع للمعلومات (الحقائق) ورص لها على الورق، بينما ينبغي أن تتحول مادة البحث العلمي إلى المدخل الذي يعرف من خلاله الطالب أن كل شيء في الدنيا -إلا المسلمات المطلقة- قابل للنقد والتفكير والتمحيص وطرح الأسئلة والبحث عن الأجوبة ثم إعداد البحث بعد ذلك.
التعليم في عالمنا العربي يمثل جرحا أليما لأنه الثغرة التي تنتج الأجيال الضعيفة غير القادرة على التطور وغير القادرة على انتشالنا من مشكلاتنا. التعليم هو أيضا الأمل الوحيد لمنح التنمية فرصة أخرى..
الحقيقة تكتشف ولا تعطى!