المجتمعون ليسوا على وفاق تام

بعد أن انتقلت الأزمة العالمية من القطاع المالي إلى القطاع الاقتصادي وانزلقت كثير من دول العالم في هاوية عميقة من الكساد الاقتصادي، بات الأمر الأكثر إلحاحا هو كيف يمكن استعادة الثقة والاستقرار للنظام العالمي. ما من شك في أن الجانب الأكبر من هذه المهمة يقع على عاتق الولايات المتحدة باعتبارها البلد الذي تسبب في المشكلة وفي انتشارها، وباعتبارها أيضا صاحبة الاقتصاد الأكبر في العالم حيث يشكل ناتجها القومي ربع مجمل ناتج الاقتصاد العالمي. لكن نظرا لترابط اقتصادات العالم بشكل لم يسبق له مثيل في التاريخ، فإن نجاح هذه المهمة يقتضي أيضا قيام دول أخرى بجهود إضافية مساندة، وتزداد مسؤولية كل دولة وفقا لحجم اقتصادها ومشاركتها في مجمل التجارة العالمية.
ولذلك لم يكن غريبا أن يحذر المسؤولون البريطانيون قبل انعقاد المؤتمر من عواقب فشل قمة دول مجموعة العشرين في مواجهة الأزمة المالية العالمية. وأكدوا أهمية تحقيق تقدم في القمة إذا أراد العالم تجنب اضطرابات على غرار ما حدث في ثلاثينيات القرن الماضي. كانت لندن قد استضافت القمة الاقتصادية عام 1931م التي فشل فيها الزعماء في الاتفاق على سبل مواجهة الركود الاقتصادي وقتها، فاتسعت الاضطرابات الاقتصادية وكانت أحد دوافع إشعال الحرب العالمية الثانية.
ولذا حذر الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون من كارثة على التنمية البشرية وأزمة سياسية عالمية في حال لم تتمكن مجموعة العشرين في قمتها المرتقبة في لندن من الاتفاق على استراتيجية موحدة لمعالجة الأزمة المالية العالمية.

الخلاف الأوروبي ـ الأمريكي
لكن المجتمعين في لندن ليسوا على وفاق على الأولويات، فهناك خلاف بين الاتحاد الأوروبي من جهة والولايات المتحدة وبريطانيا من جهة أخرى، حيث تعترض دول الاتحاد على المبالغة في سياسات التحفيز المالي وعلى التلميحات الحمائية التي صدرت في واشنطن مؤخرا. فبعض الزعماء الأوروبيين، وعلى وجه الخصوص الرئيس الفرنسي ساركوزي والمستشارة الألمانية ميركل، يطالبون بأن تتصدر قضية اعتماد ضوابط مالية أكثر حزما أولويات قمة دول العشرين، بدلا من اعتماد خطط تحفيز مالية إضافية. بيد أن بريطانيا قللت من أهمية التقارير التي تحدثت عن هذه الخلافات، ويبدو أن المنظمين البريطانيين سيأخذون في الاعتبار وجهة نظر الاتحاد الأوروبي.
الضوابط المالية والتحفيز الاقتصادي :
والحقيقة أن إصلاح الاقتصاد العالمي بحاجة لكلا الأمرين : فهو بحاجة إلى ضوابط مالية وكذلك إلى خطط تحفيز اقتصادي. فالاتفاق على ضوابط مالية أكثر حزما غدا أمرا لا مفر منه بالنظر إلى المخاطر الجسيمة التي ترتبت على إطلاق يد بنوك الاستثمار في توليد أصول ومشتقات مالية غير خاضعة للرقابة والضبط. كما أن عنف الكساد وتراجع الإنتاج وارتفاع البطالة بحاجة إلى خطط تحفيز مالي لاستعادة عجلة الحياة الاقتصادية.
ولذا يتعين على الحكومات في مختلف أنحاء العالم أن تعمل على إصلاح أسواق الائتمان التي تعاني خللا وظيفيا واضحا، وإلا فإن الائتمان لن يتدفق والنمو سيتوقف. ويقع على الولايات المتحدة مسؤولية أكبر لتنشيط أسواق الائتمان عندها، وهذا يتطلب البحث عن سبل وقف التخلف عن تسديد قروض الرهن العقاري الناجم عن انخفاض قيمة العقارات عن قيمة أقساط الرهن المتبقية. وهو ما يبدو أن الحكومة الأمريكية متجهة إليه بشراء جميع الأصول المسمومة من البنوك المتعثرة. فقد كشف وزير الخزانة الأمريكي تيموثي جايتنر أخيرا عن مشروعين ماليين جوهريين حول مستقبل النظام المالي الأمريكي. الأول يختص بتنظيم الأصول الهالكة التي تعيق النظام المصرفي منذ انفجار الأزمة العقارية الأخيرة. والثاني عن خطة لتشديد المعايير الحالية وفرض رقابة السلطات الأمريكية على عدد كبير من الشركات والأسواق التي لا تخضع للرقابة. ومن المتوقع أن لا تفرض واشنطن أفكارها في اجتماع لندن وإنما ستقوم بطرحها للنقاش، حيث أعلن جايتنر أن أوباما سيطرح في لندن مبادرة لمكافحة تبييض الأموال والتهرب الضريبي، وهي مواضيع مهمة بالنسبة لفرنسا وألمانيا.
الدولار أم عملة احتياط جديدة؟
أما في الطرف الآخر من العالم، فقد أعربت الصين مؤخرا عن تأييدها مطالب روسية قبيل قمة مجموعة العشرين الاقتصادية المقررة في نيسان (أبريل) الحالي في لندن، باستبدال الدولار الأمريكي كعملة احتياط أساسية للاقتصاد العالمي لضمان استقرار أكبر أثناء الأزمات الاقتصادية، ولضمان عدم تأثر الاقتصاد العالمي بسياسات دول بصورةٍ فردية.
بيد أن الرئيس الأمريكي باراك أوباما أبدى رفضه التام لهذه الدعوة وقال إنه لا يعتقد أن هناك حاجة إلى عملة عالمية، وأن الدولار الأمريكي قوى للغاية حاليا. وقد اعتبر المدير العام لصندوق النقد الدولي دومينيك ستراوس أن النقاش حول العملة الجديدة مشروع تماما وقد يجري على الأرجح في فترة لاحقة.
ومن الطبيعي أن تستميت الولايات المتحدة في الدفاع عن الدولار خاصة في ظل الظروف الراهنة التي لا تحتمل زعزعة الثقة في عملتها واقتصادها. كما أن الولايات المتحدة استفادت أيما استفادة من كون عملتها عملة احتياط دولي منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن، إذ ترتب على ذلك أن تشترى الولايات المتحدة حاجاتها من العالم بدولارات لا تكلفها سوى قيمة الأحبار والورق الذي تطبع عليه.
كما أنه من الطبيعي في الجهة المقابلة، أن تبدأ المطالبات باستبدال الدولار كعملة احتياط دولية بعملة أخرى، التي يجب أن تتصف دائما بالاستقرار وثبات القيمة، وهو ما بدأت تفتقده الولايات المتحدة أخيرا. ولذلك سيستمر هذا التجاذب حتى تترجح عملة دولية جديدة، أو يحصل اتفاق في المستقبل على ترتيب دولي يفضي إلى عملة عالمية جديدة تتبناها مؤسسة مالية دولية وتحدد قيمتها بناء على أوزان نسبية لأهم العملات الدولية.
خاتمة
الاقتصاد العالمي بحاجة ماسة إلى استعادة النظام العام، وهذا يقتضي استعادة ثقة الناس والمؤسسات فيه، فالجميع أصبح يعيش فترة عدم يقين حول المستقبل، ولذلك فاستعادة الثقة تتطلب جهدا كبيرا وصبرا واسعا. والثقة لن تعود لمجرد تبني سياسات إنقاذ تعتمد على زيادة الإنفاق الحكومي وتشجيع البنوك على زيادة الإقراض. بل لا بد من أن يتأكد الجميع أن النظام الاقتصادي قد أعيد ضبطه بحيث يولد طلب حقيقي ووظائف مستمرة تغذي هذا الطلب. وهذا يقتضي أن تواكب الأجور مستوى الإنتاجية، أو بمعنى آخر أن يواكب نمو العرض طلب حقيقي مستمد من قوة الدخول التي يكسبها الناس لا من الإمعان في الاقتراض بما يفوق القدرة الائتمانية للمستهلكين.
أما على المستوى الاستراتيجي البعيد، فإني أعتقد أن العالم سيستمر في المعاناة من هذه الأزمات الدورية كل حين، طالما استمر الفصل بين وظيفة المال وعمليات إنتاج السلع والخدمات. فقد أضحت المتاجرة بالأموال مقابل الأموال في ظل هذا النظام الربوي تحقق أرباحا هائلة ومكاسب ضخمة مقارنة بالمكاسب التي تتحقق في القطاعات الإنتاجية الحقيقة (تحقق جنرال موتورز وشركة فورد أغلب عوائدها من أذرعتها المالية أكثر من نشاطها الأصلي في بيع السيارات !!) الأمر الذي يؤدى إلى مزيد من الشطط في عدالة توزيع الدخل، ومن ثم التقلبات الدورية. وهذه مسألة مرتبطة بصميم فلسفة النظام الرأسمالي وهو النظام المسيطر في يوم الناس هذا. ولهذا إذا أراد العالم استقرارا حقيقيا فعليه إصلاح أصل الداء بإعادة النقود إلى وظيفتها الأصلية كأداة لتسهيل تبادل السلع والخدمات ووقف المتاجرة فيها بذاتها، بجعل المال في خدمة الإنتاج لا العكس. العالم يئن من أزمة ظاهرها المال وباطنها الأخلاق!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي