نحن في غزة (2 ـ 2)

وتزداد الطوابير يوماً بعد يوم.... فللحصول على رغيف الخبز لابد من طابور، ولكل عائلة حزمة واحدة فقط تحتوي على 30 رغيفا من الحجم المتوسط ، أو 40 رغيفا من الحجم الصغير، أما إن كان هناك فرصة للحصول على الدقيق وهي نادرة، فلابد من الانتظار في طابور أطول أمام باب الفرّان، بعد عجنه للخبيز، أو الانتقال للبديل المحلي، وخبزه في فرن طابون لدى واحدة من أفراد العائلة في آخر الشارع هنا أو في الزقاق المجاور..
معظم ما حولنا أصبح سلعة غالية، ونادرة، فكلما عرف الكادحون طريقاً لخلاص يسمو بمكانة معيشتهم، أو فكرة لأداة، أو أسلوباً لتعامل مع مورد جديد للطاقة، زاد الطلب عليه، ثم وصل سعره درجة الغليان، وبعد وقت قصير تبخر إلى العدم، وجاءت طريقة أخرى، أو فكرة جديدة، أو أسلوب رفاهية أقل من ذي قبل، لكنه مطلوب، وحل أمثل حالياً، ولم لا؟ النصر إنما صبر ساعة، والفرج قريب، فلنجرب هذا الـ (مؤقتاً) الآن وبعد انجلاء الغمة نعود إلى ما عهدنا سابقاً..
قد تبدو مصادر الحياة ومواردها قليلة أو معدومة، بل ربما يكون المنظر ذو النفوذ الأعلى هنا هو مشهد الموت بصوره المتجددة، ليس من بينها البدانة المفرطة ولا الاكتئاب النفسي، وجوه الموت البارد هنا إما قصفاً، أو حرقاً، أو تدميراً، أو بطلق ناري موجّه، أو تحت الركام، أو بانهيار مبنى مجاور، أو بالشظايا المتناثرة غضباً، أو بالتدافع ركضاً وقت القصف البربري، أو حتى بالموت قهراً بعد صمت العالم بكل ما فيه ومن فيه، مع كل ما يحاك ضد الأبرياء العزّل الآمنين في بيوتهم..
لكن ذلك لا يمنع الابتسامة مع لحظات الصباح الأولى وهي تعلن رضا الشمس عمن بقي من هؤلاء فتشرق عليهم من جديد، وتمدهم بأمل مع كل هالة ذهب تنشرها في الأرجاء، ذلك ما كان ليمنع مظاهر الحياة أن تبدأ كل يوم من جديد، بخروج المحزونين إلى ما تبقى من الأسواق المتهدمة، والشوارع المتكسرة، والأزقة المنهارة، والحوائط الملطخة بدماء الكرام النقية، والطرقات التي تحفل بذكرياتهم..
ذكريات من مروا ها هنا بالأمس، وفارقونا اليوم لعل موعدا يجمعنا قريباً، ذلك كله أبداً ما كان ليحول دون الانتشاء بالفرحة والبهجة مع تناقل خبر مقتل ولو واحد من بني صهيون، وظفر المقاومة بهذه الرؤوس الخاوية إلا من الرغبة في القتل والتدمير، كي لا تلقن البقية الباقية من فلولهم المرجفة في المدينة دروساً في أدب التعامل مع أسياد المكان، أماجد أهل غزة..
أما على الصعيد الشخصي فقد أفادني الجدول الجديد كثيراً، حيث وجدت وقتاً أطول أمضيه مع محبوبتي، بعدت عنها طويلاً، وانشغلت بل تشاغلت بكثير من مسالك الحياة وضروبها، وبقيت هي هناك بانتظار نظرة حانية من عينيّ التي ألفتْ تحديقهما طويلاً، وتأملي قوامها ليل نهار، واصطحابها معي في كل مكان من أرجاء البيت، ذلك كله ما كان ليعود لولا وقت الفراغ العريض الذي تمدد في يومي وتطاول، ووجدتني أسابق النسيم، أرتب مكتبتي من جديد، وأبدأ أقرع باب الغرام وشرفة العشق صباح مساء، وهل في الوجود عاشق أصدق من الكتاب؟
طقوس القراءة هذه الأيام أعادت لذهني اللحظات الأولى التي غزا فيها الكتاب عالمي حين كنت أشد اللحاف على وجهي صغيراً، وأضع القصة على حجري مسلطاً على وريقاتها ضوء كشاف صغير أدخر ثمن بطاريته من مصروفي وبقيته تكفي لشراء قصة غيرها، أعيش في عالم مخملي الجوانب، دائري الأركان، لا ينتهي بنهم ولا ينضب باغتراف، وها هو الآن ينسيني كل أليم ومصاب..اممم.. ماذا بقي؟
سأرسل الآن..
مخافة أن ينقطع الاتصال ويذهب كل ما كتبت هدراً، وتزيد أسباب موتي واحداً.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي