أسعار النفط المنخفضة تعالج أسعار النفط المنخفضة!
الهدف من ذكر الفقرات التالية من مقالاتي السابقة التي نشرت في "الاقتصادية" هو التأكيد على أن انخفاض أسعار النفط في حالة الكساد كان متوقعا، وأن الكساد كان متوقعا. إلا أن ما لم يكن متوقعا هي الأزمة المالية التي عجلت بحدوث الكساد. والهدف أيضا هو التأكيد على ما ذكر في هذه الفقرات من أن أسعار النفط كانت ستستمر في مستوياتها العالية لولا الكساد، وأن أسعار النفط ستعود إلى مستوياتها المرتفعة مع انتعاش الاقتصاد العالمي وتلاشي الطاقة الإنتاجية الفائضة.
نُشرَت الفقرة التالية في "الاقتصادية" في مقال بعنوان "أسعار النفط في السنوات الخمس المقبلة...أسئلة وأجوبة" يوم الثلاثاء، الموافق 10 تموز (يوليو) 2007: "ستبقى أسعار النفط في مستوياتها المرتفعة إلا إذا ضرب الكساد الاقتصادي الولايات المتحدة. احتمال انخفاض أسعار النفط بسبب الكساد أكبر من احتمال ارتفاعها بشكل كبير عن المستويات الحالية. قد يكون عام 2009 عاماً حاسماً، لأنه سيتم فيه إنجاز أغلب مشاريع توسعة الطاقة الإنتاجية، كما يتوقع أن يتم فيه سحب أغلب الجنود الأمريكيين من العراق. في حالة الكساد، ما مدى الانخفاض في أسعار النفط؟ وما مدة الفترة التي ستنخفض فيها أسعار النفط؟ لا يمكن الإجابة بدقة عن كلا السؤالين، لأن شدة الانخفاض وفترته تعتمدان على عدة عوامل، أهمها: مدى الانخفاض في الناتج القومي المحلي في الولايات المتحدة، ومدى أثر هذا الانخفاض في صادرات الصين، وبالتالي في النمو الاقتصادي في الصين، وفي الفترة التي يحصل فيها الكساد. لهذا فإن هناك عدة احتمالات, منها أن ينخفض نمو الناتج المحلي في الولايات المتحدة من دون التأثير في اقتصاد الصين، في هذه الحالة ينخفض الطلب العالمي على النفط بمقدار نصف مليون برميل يومياً على الأقل. منها أن يؤثر الكساد الأمريكي في نمو الاقتصاد الصيني بشكل ملحوظ، الأمر الذي سيخفض الطلب العالمي على النفط بأكثر من مليوني برميل يومياً. إن أحد العوامل المهمة في تحديد المستوى العام لأسعار النفط في حالة انخفاض الطلب العالمي على النفط هو "توقيت" الكساد. فكلما تأخر الكساد، انخفضت أسعار النفط بشكل أكبر بسبب اكتمال مشاريع توسيع الطاقة الإنتاجية في كثير من الدول. أما إذا حصل الكساد بشكل مبكر وانخفض الطلب العالمي على النفط، فإن هذا سيؤدي إلى تأخير مشاريع توسيع الطاقة الإنتاجية وإلغاء بعض مشاريع التوسعة، الأمر الذي سيمنع أسعار النفط من الانخفاض بشكل كبير".
والفقرة التالية جاءت في معرض الحديث عن استمرار أسعار النفط في الارتفاع من مقال بعنوان "نحو 80 دولارا للبرميل" نشرته "الاقتصادية" منتصف عام 2007 عندما كانت أسعار النفط ترتفع وتغازل حد 70 دولارا للبرميل: "خلال السنوات الخمس المقبلة: أسعار النفط ستظل في مستوياتها المرتفعة إلا إذا هيمن الكساد على الاقتصاد الأمريكي. بشكل عام فإن احتمال انخفاض أسعار النفط في عام 2009 كبير لدرجة تقلق الدول المصدرة".
والفقرة التالية كانت خلاصة مقال بعنوان "هل تستمر أسعار النفط المرتفعة؟" نشر في "الاقتصادية" قبل الأزمة بخمسة أشهر بتاريخ 22 نيسان (أبريل) 2008: "خلاصة الأمر أن أسعار النفط المرتفعة ستستمر، وقد تصل أسعار النفط إلى مستويات قياسية في الصيف المقبل، ولن تنخفض الأسعار إلا في حالة حدوث كساد كبير في الولايات المتحدة يؤثر في النمو الاقتصادي في الصين".
أسعار النفط سترتفع
إذا نظرنا إلى انخفاض أسعار النفط على أنه مرض، فإن علاج المرض هو الأسعار المنخفضة نفسها! فانخفاض أسعار النفط سيؤدي إلى وقف أو تأخير المشاريع الجديدة، كما سيؤدي إلى إغلاق عدد كبير من الآبار ذات التكلفة العالية (أو ما يسمى بالآبار الحدية)، خاصة في الولايات المتحدة. بما أن إنتاج الآبار ينخفض مع الزمن، فإنه سيأتي وقت تتآكل فيه الطاقة الإنتاجية الفائضة، فإذا نما الطلب على النفط، فإنه لن تكون هناك طاقة إنتاجية فائضة لمقابلته، ولن تكون هناك استثمارات كافية لبناء طاقة إنتاجية فائضة في الوقت المناسب. وسيؤدي انخفاض أسعار النفط، كما حصل في الماضي، إلى زيادة الطلب عليه، وبالتالي تلاشي الطاقة الإنتاجية الفائضة وارتفاع الأسعار، إضافة إلى ذلك فإن أسعار النفط المنخفضة ستوقف مشاريع الطاقة البديلة، وستوقف الاستثمار فيها، الأمر الذي يزيد من الاعتماد على النفط. وإذا عكسنا هذا المنطق، فإن العكس صحيح أيضا وهو أن الأسعار المرتفعة تعالج الأسعار المرتفعة.
باختصار إن رفع الأسعار مرة أخرى و بسرعة لا يتطلب تدخل "أوبك" وتخفيض الإنتاج، إنما ترك الأمور للأسعار المنخفضة لتعالج نفسها، تماما كما حدث في الماضي، والتاريخ خير دليل.
إذا نظرنا إلى البيانات الحالية نجد ما يلي: ستبلغ الطاقة الإنتاجية الفائضة في الربع الأول من عام 2009 نحو 4.5 مليون برميل يوميا، منها نحو مليوني برميل يوميا بسبب انخفاض النمو الاقتصادي، ومنها نحو مليون برميل يوميا نتجت عن انخفاض الاستهلاك بسبب ارتفاع أسعار النفط الكبير في الفترات الماضية، إضافة إلى ذلك فإن البيانات تشير إلى أن أسعار النفط لن ترتفع مع نمو الاقتصاد العالمي إلا إذا بدأت الطاقة الإنتاجية الفائضة بالتلاشي. هذا يعني أن ارتفاع الأسعار يتطلب التخلص من نحو ثلاثة ملايين برميل يوميا. كيف يمكن هذا؟ نمو الطلب العالمي بمقدار 4 في المائة فوق المعدلات الحالية سيؤدي إلى التخلص من نحو مليوني برميل. وانخفاض أسعار النفط لمدة تتجاوز ستة أشهر سيؤدي إلى تخفيض الطاقة الإنتاجية في العالم بأكثر من مليون برميل يوميا. طبعا هذه الأمور لن تحصل بين عشية وضحاها، ولكنها ستحصل تدريجيا. وسيتكرر ما حصل في عامي 2007 و2008، لأن الطاقة الإنتاجية لن تتمكن من مواكبة الزيادة المطردة في الطلب على النفط. المهم في الموضوع هو: كيف تتصرف دول الخليج في ظل أسعار متذبذبة بهذا الشكل؟ وهل لديها السياسات النقدية والمالية المناسبة التي تحميها في ظل هذه التقلبات؟ أترك الإجابة للقراء.