مطب وهران: مَن سيخفض الإنتاج؟
منظمة الدول المصدرة للنفط "أوبك" منظمة عجيبة، لأنها تجمع كثيرا من المتناقضات التي تهدد وجودها، ومع ذلك عاشت. رغم كل العداء من الشرق والغرب، عاشت! قامت حرب ضروس بين بعض الدول الأعضاء استمرت لمدة ثماني سنوات وذهب ضحيتها مئات الألوف من العراقيين والإيرانيين، ولكنها بقيت على قيد الحياة! انقطعت العلاقات الدبلوماسية بين بعض دول الخليج وليبيا، وكلهم أعضاء في المنظمة، ولكن العلاقات ضمن "أوبك" لم تنقطع! المنظمة تضم السعودية التي تحتوي على أكبر احتياطيات النفط في العالم، وضمت دولا ذات احتياطيات صغيرة جدا مثل الجابون والإكوادور. المنظمة تضم دولا غنية جدا مثل الإمارات والكويت، وتضم دولا فقيرة جدا مثل نيجيريا. "أوبك" ضمت دولا تتميز بضخامة سكانها مثل إندونيسيا، ودولا تتميز بقلة عدد سكانها مثل قطر. المنظمة تضم دولا تطبق أنظمة اقتصادية مختلفة من الأنظمة الشيوعية إلى الاشتراكية إلى الرأسمالية إلى الأنظمة المختلطة. رغم كل هذه الخلافات عاشت المنظمة! إذا كانت المنظمة "احتكارية" فإن النظرية الاقتصادية تتنبأ بسقوط المنظمات الاحتكارية، ولكن "أوبك" لم تسقط، ربما لأنها استثناء أو لأنها منظمة غير احتكارية. قد يرى البعض أنه رغم هذه الاختلافات إلا أن اعتماد هذه الدول على النفط يوحد أهدافها في هذا المجال، ولكن حتى هذه الرؤية غير صحيحة، لأن أهداف الدول ذات الاحتياطيات الضخمة تختلف تماما عن أهداف الدول ذات الاحتياطيات القليلة، وأهداف الدول التي تتمتع باحتياطيات نقدية ضخمة تختلف تماما عن الدول التي تريد مزيدا من المال، وأهداف الدول التي تريد تسييس النفط تختلف تماما عن الدول التي تريد إبعاده عن السياسة.
إن الاختلافات المذكورة سابقاً هي غيض من فيض، وستلقي بظلالها على اجتماع دول "أوبك" غداً في مدينة وهران الجزائرية.
إن انخفاض الطلب العالمي على النفط نتيجة الأزمة المالية من جهة، والكساد الذي يجتاح العالم من جهة أخرى، سيجبر أسعار النفط على الاستمرار بالانخفاض إلا إذا قامت "أوبك" بتخفيض الإنتاج. وستحاول "أوبك" في اجتماعها غدا في وهران الاتفاق على تخفيض الإنتاج، إلا أن "مطب وهران" سيهزها هزة عنيفة، لأنه في الحقيقة "مطبان" كبيران متتاليان: هل تستطيع "أوبك" تخفيض الإنتاج بشكل كبير يوقف هبوط الأسعار؟ وإذا قررت أن تقوم بأي تخفيض، هل ستتعاون كل الدول الأعضاء وتخفض الإنتاج معا؟
الإجابة عن السؤال الأول هي: لا، لن تستطيع "أوبك" تخفيض الإنتاج "فعليا" بشكل كبير، حتى لو أعلنت عن ذلك. حتى تستقر الأسعار لا بد من تخفيض كبير يتجاوز 2.5 مليون برميل يوميا، ورفع الأسعار بشكل ملحوظ يتطلب تخفيض الإنتاج بأكثر من 3.5 مليون برميل. ولا يمكن لـ "أوبك" أن تخفض هذه الكميات لأسباب عدة.
الإجابة عن السؤال الثاني أيضا لا، التخفيض ستقوم به بعض الدول فقط، ولن تلتزم الدول الأخرى بالتخفيض، الأمر الذي يجعل التخفيض الحقيقي أقل من المعلن، ولن يُمكّن "أوبك" من وقف تدهور الأسعار. ويعود عنوان المقال "مطب وهران" إلى أن التصريحات الجزائرية خلال الشهرين الماضيين كانت تشير دائما إلى أنه على دول أخرى غير الجزائر تخفيض الإنتاج!
هناك أسباب عدة تمنع دول "أوبك" من تخفيض الإنتاج بشكل كبير، كما أن هناك بعض الدول التي لن تخفض إنتاجها إطلاقا، ليس لأسباب مالية فقط، ولكن لأن بعض هذه الدول بحاجة ماسة إلى الغاز الطبيعي المصاحب الذي ستنخفض إمداداته إذا التزمت بحصتها الإنتاجية. بناء على ذلك، فإنه بغض النظر عن كمية التخفيض التي سيتم الإعلان عنه فإن كمية التخفيض الفعلية ستكون غير كافية لوقف تدهور الأسعار في الوقت الحالي. وإذا نظرنا إلى الطلب العالمي على النفط خلال 50 سنة الماضية ودرسنا أثر حالات الكساد الاقتصادي في الطلب على النفط لوجدنا أن الطلب انخفض انخفاضا كبيراً خلال تلك الفترات، وهوت معه أسعار النفط. كما أن الأسعار انتعشت مع زيادة معدلات النمو الاقتصادي التي أنعشت الطلب على النفط، الأمر الذي يعني أن محاولات "أوبك" رفع الأسعار عن طريق تخفيض الإنتاج لم تفلح في أكثر الأحيان، وأن نجاحها في بعض الفترات يستند إلى قيام بعض الدول القيادية بتحمل عبء التخفيض.
وبمقارنة مراحل الكساد والطلب على النفط خلالها نجد أن الوضع الحالي أقرب إلى الكساد في بداية الثمانينيات، الأمر الذي يعني أن أسعار النفط ستستمر بالانخفاض رغم تخفيض بعض دول "أوبك" الإنتاج، الذي يعني أيضا أن هناك احتمالين، الأول هو تعاون دول "أوبك" على تخفيض الإنتاج لتفادي استمرار تدهور الأسعار الذي نتج عن الخلاف بين دول "أوبك" في بداية الثمانينيات أو فشل هذه الدول في الوصول إلى اتفاق، الأمر الذي ينتج عنه حرب أسعار ستهوي بأسعار النفط إلى مستويات تقل عن 20 دولارا للبرميل.
انخفاض الأسعار الناتج عن حرب أسعار لن يدوم طويلا لأن هذه الدول ستدرك، كما أدركت في عامي 1986 و1999 أن انخفاض الأسعار إلى مستويات متدنية سيهدد استقرار هذه الدول واستقرار حكوماتها، لذلك لا بد من التعاون على تخفيض الإنتاج وتحمل عبء التخفيض بشكل عادل.
بما أن وقف هبوط الأسعار يتطلب تخفيضا كبيرا، وبما أن بعض الدول لن تخفض الإنتاج فعليا مهما كان قرار "أوبك"، فإن أي تخفيض للإنتاج ستتحمل عبئه بعض الدول في الوقت الذي تستفيد منه الدول الأخرى، بما في ذلك دول خارج "أوبك"، ولكنه لن يمنع هبوط الأسعار. لذلك فإنه ليس من المستبعد أن نرى حرب أسعار تجبر الدول غير الراغبة في تخفيض الإنتاج على تخفيض الإنتاج، تماما كما حصل في عامي 1986 و1999.
باختصار، اجتماع وهران هو مجرد "مطب" لـ "جس النبض"، ولكنه لن يكون منعطفا جديدا في تاريخ "أوبك"، مهما حاولت بعض وسائل الإعلام تلميعه، ومهما حاول بعض المحللين التركيز على نتائج الاجتماع "المعلنة". المهم في النهاية هي كمية النفط الموجودة في الأسواق في الشهر المقبل.