الحج .. فرصة للاختلاف

كثيراً ما يوصف منظر حشود الحجاج وهم يلتفون بالبياض ويؤدون ذات النسك أن ذلك مشهد يجسد وحدة الأمة وانتفاء كل الصفات الأخرى المتعلقة بالإنسان غير فردانيته أمام خالقه، فكل الجنسيات والثقافات تأتي في صعيد واحد لترفع أكف الضراعة لخالقها بغية الاستجابة، لتضع الفروقات بينها جانباً وتتوحد في مشهد متكامل.
ومع أن هذا الوصف جميل ويحفز النفس على دفع تحيزاتها، بيد أني أرى مشهداً آخر تجلت فيه الاختلافات (وليس الخلافات) لتجعل من هذه الأمة، الوحيدة القادرة على جمع هذه الأعداد الغفيرة في مكان واحد ليمثلوا ثقافات كوكب الأرض بإجماله. إنهم بحق ممثلو الدنيا، لذلك فالاختلافات بينهم هي ذاتها التي بين شعوب الأرض. ورغم أنها شعوب مارست الحروب والمنافسات والدسائس والمؤامرات والمذابح ضد بعضها، إلا أن ذلك كله يفنى، حين يتم التركيز على نقاط الالتقاء، وليس فرض نقاط الاختلاف والخلاف، وجعلها هي المحورية. حينها فقط يصبح الحوار غير ذي جدوى، وإنما لأثبت للآخر أني على صواب وهو على خطأ. عندها لا تكون الأرضية المشتركة هي الجامع بل كل يحاول الاستيلاء على هذه الأرضية بأكملها والإلقاء بالخصم خارج دائرة الحقيقة.
إن البحث عن قواسم مشتركة يطرح فضاءات جديدة للالتقاء رغم الاختلاف. فلا يمكن بحال ألا توجد ثقافات ومبادئ مشتركة بين شعوب الأرض. فهناك المسلمات الإنسانية الثابتة التي توجد أرضية أولية للبناء لتعمل على شكل جسور تربط الجزر الإنسانية رغم هدير الأمواج التي تفصل بينها.
وجاءت كلمة خادم الحرمين الشريفين في استقبال المهنئين له بالعيد لتؤكد مبدأ الحوار هذا، وأن الحج فرصة ذهبية لإثبات إمكانية الالتقاء رغم الاختلافات، التي تؤدي لا محالة لمزيد من الثراء والتعددية التي تصنع القوة والصلابة.
لكل من هذه الجموع مفهومه الخاص عن الحج، وتطبيقاته المختلفة الناشئة عن التعددية المذهبية في الإسلام، وفرقه المتنوعة، وجاءت كلها في مكان واحد لتمارس ــ كل على طريقته ــ غسل الروح من أدران التحيز والتهميش. جاؤوا ليشهدوا منافع لهم يتمثل أهمها في المشاركة في شعائر تؤديها جموع مختلفة من زوايا المعمورة يجمعهم شيء وتفرقهم أشياء. تجاوزوا ما فرقهم ليلتقوا على ما جمعهم.
إذا كان الحوار يؤدي لقبول الآخر على الرغم من تفسيراته المختلفة للنصوص والطقوس، فإن الحج أكبر برنامج تدريبي فرضه الشارع الحكيم ليوجه الناس لنقاط الالتقاء بالرغم من عظم المسافات الفاصلة بينهم. إنه الفرصة الأفضل لقبول الذات بكل أطيافها وعدم مصادرة أو تهميش ما لا يدخل منها في المركز الثقافي. إنه تدريب ميداني لرفض فكرة الوحدة المتجانسة، وتبني فكرة الوحدة المتعددة، ذات الأطياف والألوان الكثيرة. إنها وحدة قائمة على جزيئيات صغيرة. وكما هي وحدة المادة المعتمدة على ملايين الذرات المختلفة والمتنافرة، فإن وحدة هذه الأمة جاءت من قدرتها على التوسع والاختلاف. لم يكن الإسلام أيديولوجية تفرض على الشعوب لتمارسها كما يمارسها العرب، أو يفهمونها كما يفهمونها، ولو كانت كذلك لما عاشت طوال هذه القرون، ولرفضتها الثقافات الأخرى تماماً كما تم رفض الاستعمار العسكري والثقافي. ولكن الإسلام لم يكن استعماراً، ولم يكن أيديولوجية مفروضة بمحتواها الثقافي العربي. بل إن الإسلام كان يتشكل بثقافة كل بلد يدخله، نظراً لقابليته للاحتواء داخل هذه الثقافات، ولمرونته أثناء التعامل مع المعطيات الاجتماعية، ليضع "المعروف" و"المنكر" في السياق الاجتماعي وما تعارف عليه أو أنكره المجتمع حسب نموه الثقافي والتاريخي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي