الكونجرس في عهد الرئيس الجديد
يزعم كثيرون أن الإدارات الأمريكية المتعاقبة لا تغير كثيراً في السياسة الأمريكية الداخلية ولا الخارجية، وأن هذه الإدارات تظل تدور في فلك صغير مقارنة بدور الولايات المتحدة الأكبر في العالم. وهذا القول مجانب للصواب، فدور الرئيس حاسم في توجيه سياسات الولايات المتحدة في الداخل والخارج، ناهيك عن حقوقه الدستورية في الاعتراض على أي قرار يصدره الكونجرس، أو الضغط لإصدار قانون معين. وليس أدل على ذلك من قانون مكافحة الإرهاب "قانون باتريوت"، الذي صدر بعد هجمات أيلول (سبتمبر) 2001 بضغط من إدارة بوش ليحد كثيراً من الحقوق المدنية التي يكفلها الدستور الأمريكي. ولا يمكن بحال أن نقارن بين الولايات المتحدة في عصر بيل كلينتون مثلاً وعصر بوش دون أن نلاحظ الفرق الكبير بين الإدارتين وكذلك بين صورة الولايات المتحدة واهتماماتها في الفترتين.
ونحن الآن على عتبات عصر جديد ليس في الولايات المتحدة فقط، بل في العالم أجمع. إنه عصر تمكن فيه القاطنون خارج دوائر التأثير السياسي والثقافي من اختراق دائرة المركز، فهذا أوباما ابن المهاجر الكيني يصل إلى رئاسة البلد الذي هاجر إليه والده قبل أقل من خمسة عقود، البلد الذي يعاني دائماً التفرقة الثقافية والاقتصادية والعرقية بين البيض والملونين، وهذا ساركوزي ابن المهاجر المجري يصل لقصر الإليزيه في بلد يعاني فيه المهاجرون من شمال إفريقيا وشرق أوروبا ظروفا اقتصادية صعبة، وهذه ميركيل الألمانية تصبح مستشارة ألمانيا الموحدة وهي القادمة من جانبها الشرقي الذي ظل ردحاً من الزمن تحت سيطرة الاتحاد السوفياتي، وما زال يعاني إلى اليوم من التهميش في سياسات ألمانيا الداخلية، والفروقات الاقتصادية كبيرة وجلية بين الجانبين الشرقي والغربي لكل زائر، ولا يخفيها الألمان أنفسهم. وهذا جوردون براون الاسكتلندي الأصل يصبح رئيساً للوزراء في بلد استعمر اسكتلندا قروناً حتى أجبرها على التوحد معه تحت اسم المملكة المتحدة في بدايات القرن الـ 18.
إن هذا العصر الجديد "في الولايات المتحدة على أقل تقدير" يضع لزاماً على متتبع السياسة الأمريكية أن يتوقع التغيير القادم في أهدافها وآليات تحقيقها، فتشكيلة الكونجرس الحالية هي 49 عضواً جمهوريا و49 عضواً ديمقراطياً واثنان مستقلان، وبعد الانتخابات الأخيرة أصبح 54 عضواً ديمقراطياً و40 عضواً جمهورياً واثنان مستقلان، إضافة إلى أربعة مقاعد لم يتم حسمها، حيث لم يتوصل المرشحون لها لنسبة الـ 50 في المائة المطلوبة لضمان المقاعد وحتى لو فاز بها جمهوريون فلن يغيروا كثيراً في هيئة الكابيتول ذات الأغلبية الديمقراطية.
أعلن باراك أوباما سياساته الخارجية أثناء الانتخابات، التي تتلخص في سياسة أقل مواجهة مع القوى العالمية الخارجة عن سيطرة الولايات المتحدة وتحديداً إيران وكوريا الشمالية، وصرح بأنه سيعقد مفاوضات مباشرة مع هذه الدول للوصول إلى حلول وسطية ترضي جميع الأطراف، وتضمن سلامة المصالح الأمريكية. كما أعلن أكثر من مرة أنه ينوي إنهاء الحرب في العراق وإعادة بناء الدبلوماسية الأمريكية الخارجية لتواجه تحديات القرن الـ 21 عن طريق بناء تحالفات جديدة وفرض مزيد من الضغوط على السودان لإنهاء الحرب في دارفور.
في الشأن الداخلي الأمريكي ينوي أوباما "والكونجرس الجديد بناء على الحملات الانتخابية لأعضائه الجدد" رسم سياسات داخلية جديدة يمكن وصفها بأنها أكثر ترحيباً بالمهاجرين، من خلال تجديد سياسات الهجرة، وإصلاح أوضاع المهاجرين غير النظاميين في الولايات المتحدة. وتعد هذه نقطة أساسية لدى أعضاء الكونجرس الجدد، الذين أطلقوا 253 حملة إعلانية حول موضوعات الهجرة فقط. لذلك أعلن مركز سياسات الهجرة ترحيبه بالتشكيلة الجديدة للكونجرس وأنها ستسهم في حل المشكلات العالقة فيه منذ فترة طويلة. كما سيسعى أوباما "والكونجرس الجديد" إلى تعديل نظام الضريبة الأمريكي بفرض ضرائب أعلى على الشركات الكبرى والطبقة التي يتعدى دخلها 250 ألف دولار في العام الواحد، وذلك في سبيل إنعاش الاقتصاد الأمريكي المترنح تحت وطأة الأزمة المالية العالمية. وكرر المرشحون الجدد للكونجرس عزمهم انتهاج سياسات خضراء فيما يتعلق بسلامة البيئة، وذلك بفرض مزيد من القيود على شركات الطاقة ومصانع السيارات وطرح خمسة ملايين وظيفة جديدة في مجال الطاقة البديلة لاستثمار قرابة 150 بليون دولار على مدى السنوات العشر المقبلة لبناء بدائل طاقة صديقة للبيئة.
إن هذه التغييرات في السياسات الأمريكية الداخلية والخارجية تضع لزاماً على الدول الراغبة في تطوير علاقاتها مع الولايات المتحدة أن تتمرحل مع الفترة الجديدة، وتخاطبها بلغة تستطيع أن تفهمها لكي تضمن سلامة مصالحها الوطنية، وتجعل من الإدارة الجديدة صديقة مساهمة في خطط البناء والتنمية.