Author

أحسن الله عزاءكم يا أهل القديح وعزاءنا معكم

|
فوجئ المجتمع السعودي بتفجير انتحاري استهدف مسجد علي بن أبي طالب في قرية القديح بمدينة القطيف السعودية خلال أداء صلاة الجمعة الماضي، ما أسفر عن سقوط ما لا يقل عن 20 شهيدا و50 جريحا حسب آخر الأرقام الواردة. فبينما جموع المصلين يؤدون الصلاة سمع دوي انفجار هائل داخل المسجد حينما قام انتحاري بتفجير نفسه بوضعه حزاما ناسفا كان مخفيا تحت ثيابه. وقد جاء هذا التفجير في اليوم الذي يحتفل فيه المسلمون الشيعة بذكرى ولادة الإمام علي بن الحسين، رابع الأئمة الاثني عشر. وهذا ليس التفجير الأول، ففي نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي أطلق مسلحون النار على مصلين في أحد المساجد بقرية الدالوة بالأحساء بالمنطقة الشرقية، التي تضم أكبر تجمع للمواطنين السعوديين الشيعة، ما أدى إلى مقتل ثمانية منهم. وقد انشغل الرأي العام المحلي وتكاتف الناس حول أهل القديح وعلق الكثيرون حول الحادثة، لدرجة أنني أجزم أن ليس لوسائل الإعلام السعودية مادة إعلامية خلال الأيام القليلة الماضية سوى حادثة القديح. وأنا في العادة لا أحبذ أن أخوض في الموضوعات التي أشبعت كتابة وتحليلا لأن الكاتب سيكرر ما قاله غيره فيمل القارئ، إلا أن تفجير القديح يحتم علينا جميعا المساهمة من أجل شجب واستنكار هذا العمل الخبيث، وينبغي لنا أن نتعاون كتابا ومسؤولين ومواطنين ومدنيين وعسكريين وسنة وشيعة من أجل أمننا، وأرى ذلك واجبا دينيا ووطنيا وإنسانيا. لذا سيكون مقالي هذا مساهمة في فاجعة القديح، فأهل القديح وأهل القطيف وإخواننا الشيعة يستحقون منا الكثير، وسنظل متلاحمين مترابطين رغما عن أنف من يخطط لضرب بعضنا بعضا ويريد أن يوظف الطائفية لمكاسب شخصية كما فعل في بعض الدول العربية، فاليد واحدة والأداة واحدة. وقبل أن أبدأ، أريد أن أستغل منبري هذا لأقدم خالص العزاء والمواساة لأهلنا وإخواننا في القديح وأقول لهم أحسن الله عزاءكم، ورحم الله موتاكم، وعظم الله أجركم، فلله ما أعطى ولله ما أخذ وكل شيء عنده بمقدار، فالمصاب واحد، والجرح واحد، وقد آلمنا ما آلمكم، وأصابنا ما أصابكم، ولكن ما نقول إلا ما يرضي ربنا عز وجل "إنا لله وإنا إليه راجعون". ورغم هذا الجرح الغائر وهذه المصيبة المدوية وهذا المصاب الجلل، إلا أنني أود أن أسجل إعجابي بما رأيته من تلاحم بين أفراد الشعب السعودي، فلسان حالنا يقول كلنا أهل القديح سنة وشيعة، كبارا وصغارا، مسؤولين ومرؤوسين، رجالا ونساء، مثقفين وعامة. فلم يستطع تفجير القديح أن يقيض الفتنة في السعودية، بل زادها تلاحما وترابطا ووعيا وإدراكا بما يدور حولها. هذا التلاحم ينبئ عن فكر نير يندر وجوده في هذا الوقت، خصوصا أن الطائفية قد تسللت خفية في السنوات الأخيرة إلى المجتمعات العربية ففرقت جمعها وشتتت شملها وقيضت فتنا ونكأت جراحا. فرغم الجرح من فقدان أبنائنا وإخواننا المصلين في مسجد علي بن أبي طالب ــ رضي الله عنه ــ في مدينة القديح، إلا أن هذا التلاحم وهذا الوعي وهذا الفهم السريع لما وراء التفجير يخفف الآلام ويضمد الجراح، فدول متقدمة ومجتمعات متحضرة إلى الآن لم تستطع أن تسيطر على الفروقات المجتمعية، ولم تستطع أن تردم الهوة الثقافية، وفي مقدمتها رافعة شعار الحرية ــ أمريكا ــ التي ما زالت إلى الآن تعاني لظى الاختلافات على أساس العرق والدين واللون والجنس والطائفة. أما نحن، فقد تخطينا هذه المرحلة لأننا بنينا حضارتنا على قبول بعضنا باختلافاتنا، وما حادثة القديح ومن قبلها حادثة الدالوة إلا برهانان على ذلك. ولكن دعونا نغوص قليلا في الموضوع ونحلل الموقف لعلنا نصل إلى السبب الجوهري وراء هذا التلاحم الذي تبتهج به النفوس وتقر به الأعين. أرى أن العقل الجمعي للمجتمع السعودي أدرك الأزمة جيدا وحلل الموقف بعناية ونظر عن يمينه وعن يساره ومن فوقه ومن تحت أقدامه فرأى الطائفية كيف مزقت العراق، وكيف شلت حركة الحياة في سورية، وكيف ضيعت البوصلة في لبنان، وكيف قسمت اليمن إلى شيع ومذاهب يذيق بعضها بأس بعض. هذه الدول لم يشتتها الفقر ولم يفرقها الجهل، فقد ظلت عقودا ترزح تحت خطر الفقر، الذي فتت هذه المجتمعات هي المؤامرات الخارجية المبنية على أسس طائفية. وقد تحدثت مرارا وتكرارا عن خطر الطائفية، وكنت أخشى أن تأتينا فتكسر وحدتنا، إلا أن نبؤتي لم تكن في مكانها، فها هي الطائفية تدخل بلادنا في أوقات عصيبة وما زادتنا إلا تلاحما وتعاضدا وهذه نعمة من الله ورحمة ينبغي أن نحدث بها. لقد أدرك المجتمع السعودي سنة وشيعة ورأى بأم عينيه كيف تفعل الطائفية بالشعوب الآمنة، فالأعراض تنتهك والمحرمات تستباح والأنفس تزهق والدماء تراق والحقوق تضيع. لذا نقول لمن يباغتنا بمثل هذا الفعل الجائر ابتعد عن بلادنا فقد رأيت تماسكنا وقربنا من بعضنا وقوة شكيمتنا وصلابة عودنا، وأظنك لن تجد ضالتك بيننا، فقط ستخسر أتباعك وتبدد أموالك. فكم تفجير فعلت؟ وكم كارثة صنعت! وكم سفيه جندت! كل هذا لم ينل منا، ولم يحقق ما تأمله منا، الذي حدث أنها اتضحت نيتك وتبينت أهدافك وتعرت هويتك، ولم يزدنا هذا إلا تلاحما وترابطا ومحبة رغم اختلافنا. فنحن بالفعل مختلفون وما العيب أن نكون مختلفين؟ لقد خلق الله سبحانه وتعالى الناس مختلفين في اللون، والطول، والعرض، والخلقة وقبلنا بذلك، أفلا نرضى بأن نكون مختلفين في العادات، والتقاليد، والديانات، والمذاهب؟ لذا لا تحاولوا أن تلعبوا على اختلافاتنا وأنصحكم أن تسوقوا بضاعتكم في أماكن بعيدة وبلاد أخرى غير بلادنا. بلاد لا تعرف معنى الحضارة، وأمم يغيب عنها فهم الحياة، وأرض يصعب فيها التعايش، وشعوب تسعر للفتنة. غادروا بلادنا فليس لكم فيها حضور، وليس لكم فيها قبول، ولا يوجد لكم بها سوق فأنتم تلعبون في الميدان الخطأ.
إنشرها