Author

تحويلات العمالة «ثروة هاربة» تنتج ثغرة اقتصادية تتسع سنويا

|
في وقت يتزايد فيه الحديث عن أهمية رأس المال البشري، وعن طبيعة الدور الذي يمكن أن يلعبه فى دفع عجلة التنمية الاقتصادية، تحتل قضية العمالة أولوية قصوى على أجندة الحكومة في المملكة. وتتناول وسائل الإعلام سوق العمل في المملكة وموضوع البطالة والعمالة الوافدة في الكثير من المناسبات وفي العديد من المجالات، فتشير إلى أن ما يقارب 1.5 مليون مواطن ومواطنة هم عاطلون عن العمل مقابل أكثر من أربعة ملايين عامل وافد يعملون في المملكة، وتنذر أن فئة من الوافدين أتيح لها الهيمنة على بعض الأنشطة الاقتصادية، ما أدى إلى تفاقم البطالة، كما أن قيمة تحويلاتهم النقدية إلى خارج المملكة تجاوزت 100 مليار خلال عام 2010. ويطالب المراقبون والمسؤولون الحكوميون بتدخل الحكومة لمعالجة هذه الأمور المثيرة للتساؤل والقلق في آن معاً. وبنظرة متأنية على واقع سوق العمل في المملكة تبين أن للمشكلة أوجهاً مختلفة وأن الحل ليس بالسهولة المفترضة أو الإجراءات الآنية. فهناك عامل أساسي يتحكم في تركيبة وديناميكية السوق ويتمثل في الاختلال بين مستوى الطلب على العمالة، الذي يرتبط بوتيرة النمو واحتياجات التنمية ومستوى العرض الذي يرتبط بهيكلية السكان السعوديين. وتسعى الحكومة بجهد وجدية لحل مشكلة البطالة وإحلال العمالة الوطنية محل العمالة المستوردة (ما يعرف بالسعودة أو توطين الوظائف)، فاتخذت إجراءات عدة لمواجهة الصعوبات التي تلازم هاتين المشكلتين. وواقع الأمر أن حجم وتركيبة قوة العمل السعودية لا تتناسب مع الفرص المتوافرة والمتاحة، بمعنى أن الطلب على العمالة أكبر من حجم ونوعية العرض، فسوق العمل في السعودية تشكو من حالة خاصة تعرف باسم ''فوق الاستخدام'' أو (Over-employment) . نتناول في هذا البحث تحليل واقع سوق العمل في المملكة في أربعة محاور نضعها في حلقتين: الأولى خصائص سوق العمل ونتطرق فيها إلى وضع الطلب والعرض وسمات كل منهما، إضافة إلى ظاهرة البطالة في سوق العمل، ونتناول في الحلقة الثانية موضوع السعودة وبرنامج توطين الوظائف وقوة العمل الافتراضية، ونختتم البحث بالتطرق إلى وضع سوق العمل المستقبلية. #2# #3# خصائص قوة العمل السعودية تعتبر التركيبة السكانية العامل الرئيسي في تحديد معطيات سوق العمل، وتتميز التركيبة في المملكة بظاهرتين أساسيتين: أولهما حداثة السن، إذ تبلغ فئة ما دون 15 عاماً نحو 38% من إجمالي عدد السكان السعوديين البالغ 19.4 مليون نسمة عام 2011، الأمر الذي يترجم في فرصة توفر قوة عمل فتية وتحد في آن معا يتمثل في مهمة تأهيل تلك القوة العاملة. أما الظاهرة الثانية فتتمثل في ارتفاع نسبة السكان من فئة ''خارج قوة العمل''- بكل ما تمليه من عبء اقتصادي- التي تبلغ نحو 62 في المائة من السكان السعوديين فوق سن الـ 15 عاماً أي ما يعادل 7,8 مليون نسمة. خصائص عرض العمالة بلغ عرض العمالة في المملكة عام 2011 نحو 9.9 مليون فرد منهم نحو 5.8 مليون عامل، ما جعل حجم العمالة المستوردة أكبر من العمالة السعودية نفسها. ويتميز عرض العمالة السعودية بحداثة السن، إذ يقع نحو 26% منها في فئة بين 15 و30 عاماً، كما أن نسبة العمالة النسائية السعودية أعلى من الذكور في الفئة العمرية 30-44 عاما ثم تنخفض في الفئة العمرية فوق 45 عاماً بشكل واضح، ما يدل على اتجاه العاملات السعوديات نحو الانسحاب من قوة العمل بعد سن 45 عاماً. الميزة الأخرى لعرض العمالة النسائية السعودية هي أن معظمها 80% من حملة الدبلوم والشهادات الجامعية، بينما نجد نحو 52 في المائة من العاملين الذكور من حملة التعليم الثانوي والمتوسط. كما تتميز سوق العمل في السعودية ببعد دولى من حيث قدرتها على استيراد العمالة الضرورية من جميع أسواق العمل في العالم، ما يعني أنها تستفيد من وجود عرض لا نهائي من العمالة. #4# #5# خصائص الطلب على العمالة يتركز الطلب على العمالة بشكل عام في القطاعات الخدمية- وفي مقدمتها الإدارة العامة والتعليم - إذ تستقطب نحو 59% من إجمالي العاملين السعوديين الذكور، بينما يتركز الطلب على معظم العمالة المستوردة في أنشطة إنتاجية تشمل القطاع الصناعي والزراعي والإنشاء، إضافة إلى التجارة، وقد بلغ حجم العمالة المستوردة من الذكور نحو 71% من العاملين في هذه الأنشطة. وفي هذا السياق، يتركز معظم الطلب على العاملات السعوديات 90% في قطاعات التعليم والصحة والقطاعات الخدمية، بينما يتجاوز الطلب على العمالة النسائية المستوردة من قبل أنشطة الأسر الخاصة 88% من إجمالي اليد العاملة النسوية المستوردة. ويظهر الشكلان التاليان التوزيع النسبي للطلب على العمالة حسب الفعاليات الاقتصادية: #6# #7# وتتميز سوق العمل في السعودية أيضا بتوزيع الطلب على العمالة الوطنية والمستوردة، سواء بالنسبة إلى الذكور أم الإناث بشكل تكاملي أكثر منه تنافسي، بمعنى أن الطلب، حسب الأنشطة الاقتصادية فرض على سوق العمل توزعاً على أربعة أنواع من الأسواق المنفصلة والمتكاملة في آن معاً، وهي الطلب على العمالة السعودية (الذكور) والطلب على العمالة المستوردة (الذكور) والطلب على العمالة السعودية (الإناث) وأخيراً الطلب على العمالة المستوردة (الإناث). ويخضع الطلب في كل من هذه الأنواع الأربعة لاعتبارات مختلفة اقتصادية واجتماعية تضع حواجز وعوائق أساسية تحول دون انتقال العمالة بحرية وكفاءة، فيما بين تلك الأسواق. ويدل هذا التوزيع أن المنافسة بين العمالة الوطنية والمستوردة ضئيلة ومحدودة، لأنها ترتبط بأنماط طلب مختلفة، ما يجعل إحلال اليد العاملة الوطنية محل العمالة المستوردة عملية شاقة ذات أبعاد اجتماعية واقتصادية خاصة بالنسبة إلى العمالة النسائية. وقد نشأت إلى جانب هذه الأسواق النظامية سوق غير نظامية تعرف بسوق العمالة السائبة، هي عمالة مستوردة بشكل نظامي دون أن تكون لها أعمال محددة، ثم أطلق لها العنان للبحث عن عمل لتكتسب عيشها منه، وترجع أسبابها بشكل عام إلى عوامل إدارية وتنظيمية أفرزت أثاراً اجتماعية واقتصادية سلبية جسيمة. ظاهرة البطالة تعرف البطالة بأنها نسبة الإشخاص القادرين على العمل (قوة العمل) والباحثين عنه، لكنهم لا يجدون من يوفره لهم. وتشير الإحصائيات الرسمية إلى أن نسبة البطالة للسعوديين عام 2011 تصل إلى 12,8%، منها نسبة للإناث السعوديات بمعدل 33,4%، بينما تنخفض للذكور السعوديين إلى نحو 7,4%. ونجد معظم السعوديين العاطلين عن العمل من الذكور هم من الفئة العمرية بين 20 و30 عاما، إذ تبلغ 81% من إجمالي العاطلين عن العمل السعوديين، وترتفع هذه النسبة إلى 85% لدى السعوديات. ما يدل على أن البطالة بشكل عام متفشية لدى الشباب من الجنسين، خاصة في الفئة العمرية ما بعد الدراسة الثانوية. أنتج نمط الطلب على العمالة في المملكة وأسواقها المتكاملة ظاهرتين احتلتا أهمية بالغة في أوساط المسؤولين والمهتمين، وتسعى الحكومة جاهدة لإيجاد الوسائل المختلفة للتصدي لهما: مكافحة البطالة، وتوطين الوظائف أو ما يعرف بتطبيق السعودة. تتعلق الظاهرة الأولى بتخفيض نسبة العاطلين عن العمل السعوديين، خاصة لدى الإناث، بينما تتعلق الظاهرة الثانية بإحلال اليد العاملة السعودية محل المستوردة. ومن الضرورة بمكان أن نفرق بين هاتين الظاهرتين، نظراً إلى اختلاف طبيعة كل منهما عن الأخرى. وبغياب الإحصاءات عن توزيع البطالة، حسب الحالة التعليمية لعام 2011، نعمد إلى تناول إحصائياتها لعام 2009، إذ يدل توزيع البطالة لدى الإناث على مفارقة مهمة، فترتفع مع تقدم المستوى التعليمي، حيث إن 78% من العاطلات عن العمل يحملن درجة البكالوريوس، وهي نسبة أعلى منها بين العاملات اللواتي يحملن نفس الدرجة التعليمية، ما يعني أن فرص التوظيف لدى المتعلمات هي أقل من فرص العمل لذوات المستوى التعليمي الأقل. ويدل هذا الأمر على أن المؤهلات التعليمية لدى الإناث لا تتناسب مع متطلبات الفرص المتوافرة. وأما بالنسبة إلى الذكور، فإن أكثر من 70% من العاطلين هم من مستويات التعليم الثانوي وما دون. وتعكس البطالة في السعودية- إضافة إلى كونها ظاهرة اقتصادية- بعداً اجتماعيا مؤثراً، إذ إن العديد من السعوديين العاطلين عن العمل (من الذكور والإناث) يفضل العمل في مكان إقامته لاعتبارات شخصية أو عائلية، إضافة إلى العديد ممن يفضل العمل في القطاع الحكومي دون القطاع الخاص، أو من ينتظر فرصاً وظيفية محددة لم تتوفر بعد. ويرجع معظم المراقبين معوقات تطوير سوق العمل وحل مشكلة البطالة في المملكة إلى عوامل إدارية وتعليمية مختلفة، فمنهم من يرجعها إلى عزوف الشباب عن العمل في بعض الوظائف المطلوبة والمتاحة في القطاع الخاص بحجة النظرة الاجتماعية الدنيوية لتلك الوظائف، أو إلى تدني مستويات الأجور المعروضة في كثير من المنشآت. وهذه العوامل في الحقيقة، هي مؤشرات للمشكلة وليست السبب في حدوثها، ولا تقرب من التحليل الدقيق ولا ترقى إلى مستوى وضع الحلول الناجعة لمشكلة البطالة والسعودة. وليس هناك حل واحد وآن لأوجه القصور في أسواق العمل الأربعة المنوه عنها أعلاه. كما أن تحديد نسبة اليد العاملة المسموح باستيرادها قد لا يكون ممكنا أو حتى مطلوباً من الناحية العملية، نظراً إلى انعكاساتها السلبية على فعاليات الاقتصاد الوطني. فالبطالة في المملكة ذات طبيعة هيكلية ولا تجدي في معالجتها الحلول الكينزية (نسبة إلى الاقتصادي المعروف كينز)، التي تعتمد على برامج الإنفاق العام والتوظيف الإداري، لأنها تزيد حجم الطلب على العمالة دون رفع مستوى العرض. أفرزت طبيعة سوق العمل في السعودية ظاهرة شغلت اهتمام العديد من المسؤولين والمراقبين وتتمثل في الحجم الهائل للتحويلات النقدية للعمالة المستوردة. وتقدر الأوساط الرسمية قيمة هذه التحويلات عام 2010 بنحو 100 مليار ريال، فيما يرجح بعض الاقتصاديين أن تكون الأرقام الحقيقية أعلى بكثير إذا ما أخذنا بعين الاعتبار التحويلات عبر الطرق غير الرسمية. ويرى العديد من المراقبين أن تحويلات العمالة المستوردة تمثل ''ثروة هاربة'' ينتج عنها ثغرة اقتصادية خطيرة تتسع كل عام، بينما يدعو العديد الحكومة إلى أن تتخذ الوسائل الكفيلة للحد منها. والحقيقة أن هذه الظاهرة هي أحد إفرازات وضع وحجم العمالة المستوردة التي تزداد كل عام، ولها شقان: فمن جهة، كان استيراد العمالة ضرورياً تحتمه متطلبات بناء البنى التحتية الاقتصادية وضرورات التنمية، وتعد عاملاً إنتاجياً يترافق ويتلازم مع نمو الأصول الإنتاجية الأخرى (رأسمال أو مواد أولية أو معدات). ويستدعي دفع أثمان تلك العوامل كأية سلعة– استهلاكية كانت أم إنتاجية– وبديهي أن يتم تحويل أثمانها إلى مصادرها ومورديها. وبالتالي يمكن اعتبار المبالغ المدفوعة للعمالة المستورة كجزء من تكلفة استيرادها، ونتساءل لماذا لا يتناول أولئك المراقبون حجم المبالغ التي تحول مقابل استيراد السلع إنتاجية كانت أم استهلاكية؟ وأما الشق الثاني المتعلق بتحويل تلك المبالغ إلى الخارج فيستدعي أن نتذكر أن معظم تلك العمالة المستوردة ليس لديها- إلى حد بعيد- خيارات متاحة كي تحتفظ بتلك المبالغ واستثمارها داخل الدولة. ويبدو أن البدائل المتوافرة– حتى الآن– ضئيلة ومحدودة، ولذا فمن البديهي أن تحول تلك العمالة معظم وفوراتها إلى الخارج بدلاً من تحويلها إلى استثمار محلي. ونسوق في هذا الصدد ما أشار إليه بعض المراقبين بكل جرأة إلى أن الحل الناجع في الحد من حوالات العمالة الوافدة، يتحقق في فتح المجال للاستثمار الأجنبي المقيم والتملك، وقد تكون تلك رغبة العديد من الأجانب المقيمين في المملكة. ومن شبه المؤكد أن اتجاه بعض الجهات الحكومية– كما يقترح بعض المراقبين– إلى القيام بإعداد برنامج للحد من التحويلات الضخمة من جانب العمال الوافدين لن تؤثر جوهريا في حجم التحويلات، بل ستؤدي إلى إيجاد سوق سوداء للتحويلات غير الرسمية. كما أن الاقتراحات الأخرى من فرض رسوم أو ضرائب إضافية على العمالة الوافدة من خلال تأشيرات الاستقدام أو الإقامة بغية تخفيض أعداد العمالة الوافدة في سوق العمل السعودية، لن تؤدي إلى الأهداف المرجوة من زيادة الاعتماد على العمالة الوطنية، وبالتالي خفض معدلات البطالة وخفض معدلات الحوالات المالية إلى الخارج. إن الاعتقاد بأن رفع تكلفة العمالة المستوردة سيؤدي بالضرورة إلى تخفيض عددها، وأنه سيدفع المؤسسات إلى استقطاب العمالة السعودية ويؤدي إلى خفض معدلات البطالة بين السعوديين، أو أنه سيؤدي بالتالي إلى الاحتفاظ بالموارد المالية داخل البلاد, إن هو إلا ضرب من الوهم في أحسن الأحوال.

اخر مقالات الكاتب

إنشرها