كيف تتحول الشركات العائلية إلى مساهمة عامة؟

تعتبر الشركات العائلية العمود الفقري لأنشطة القطاع الخاص في معظم دول العالم، إذ تشكل نحو 70 في المائة من إجمالي شركات القطاع الخاص عالميا، وينسحب هذا الوضع على دول الخليج العربي، ومنها المملكة العربية السعودية. وتقدر بعض الشركات الاستشارية المتخصصة أن عدد المؤسسات والشركات العائلية المتوسطة كبيرة الحجم تبلغ في دول الشرق الأوسط أكثر من خمسة آلاف منشأة تتعدى أصولها الصافية 600 مليار دولارأي نحو 75 في المائة من إجمالي أصول مؤسسات القطاع الخاص، كما أنها توظف أكثر من 70 في المائة من إجمالي القوى العاملة.
وفي هذا السياق، تشير التقديرات إلى أن أكثر من 90 في المائة من شركات القطاع الخاص (أكثر من 800 ألف شركة) في السعودية هي شركات عائلية، وهي إما شركات مملوكة بالكامل من قبل تجمع عائلي أو مساهمات بحصص أغلبية وتقدر قيمتها بما يزيد على 400 مليار ريال؛ وتستوعب تلك المنشآت العائلية في السعودية ما ينيف على 80 في المائة من القوى العاملة مما يشكل نحو 60 في المائة من الاقتصاد الوطني في المملكة.

#2#

مراحل تطور الشركات العائلية
أدت الطفرة الاقتصادية التي شهدتها دول الخليج العربية في فترة السبعينيات والتي نتجت عن الارتفاع الحاد لأسعار البترول، إلى نشوء معظم المنشآت العائلية بشكل مؤسسات فردية؛ إذ نجحت بعض العائلات التي تتمتع بموقع اجتماعي متميز في تلك الدول في استثمار تلك الفرص وتحقيق قدر ملموس من الثراء السريع. وتميزت تلك الفرص بشكل خاص بظاهرتين تمثلت الأولى في الحصول على وكالات حصرية لاستيراد وتوزيع بعض السلع الاستهلاكية والمعمرة في أسواق المنطقة. وتكمن الظاهرة الثانية في الدعم الحكومي السخي والحماية الجمركية المقيدة، إضافة إلى حصول تلك المؤسسات على قروض مصرفية متنوعة وفي بعض الأحيان ميسرة من قبل الحكومات والمصارف التجارية، الأمر الذي مكن تلك المؤسسات من تطوير أعمالها وتوسيعها وتنويع أنشطتها. وهكذا نشأ الجيل الأول - جيل المؤسسين - من أصحاب المنشآت العائلية والتي تميزت بنمط إداري يعتمد على المركزية المطلقة من قبل ملاًك يعتقدون أنهم الأقدر على إدارة منشآتهم وضمان نجاحها واستمراريتها.
وفي هذا السياق، لعبت العديد من المؤسسات المالية في المنطقة دوراً مهماً في استرسال المنشآت العائلية في الاقتراض، وساعد على ذلك تمادي بعض المؤسسات المالية في منح القروض والتسهيلات المالية لعديد من المنشآت العائلية دون تقييم جدي لمستوى ملاءتها المالية ودون اتخاذ التدابير والوسائل الضرورية للتأكد من قدرتها على الوفاء بالتزاماتها، وتم هذا التهاون اعتماداً على سمعة أصحاب هذه المنشآت، الأمر الذي كرس ما عرف في الأوساط المصرفية باسم Name lending أي الإقراض بضمان اسم وشهرة المقترض بغض النظر عن توفر ضمانات كافية تغطي قيمة القروض والتسهيلات المادية المقدمة. وأسهمت هذه الحالات في زعزعة كيان بعض المنشآت العائلية الخليجية التي تأئر أداؤها وفاقت التزاماتها المالية قيمة أصولها الفعلية وفقدت قدرتها على سداد القروض الممنوحة لها في الآجال المحددة.
انتقل معظم هذه المنشآت إلى الجيل الثاني – أي أبناء جيل المؤسسين. ويتسم هذا الجيل من الملاًك المديرين بشكل عام بقدر أكبر من التعليم مما حصل عليه الجيل المؤسس ، وبقدر أعلى من المهنية في الإدارة، مما أتاح لها الاستمرارية والنمو خلال تلك الفترة. ورغم هذا التطور الإيجابي إلا أن معظم أمور المنشأة العائلية وخاصة المالية بقيت من الأسرار المقدسة لدى الابن الذي يدير شؤون المنشأة، وفي العديد من الحالات كان يصعب على أي فرد من أفراد العائلة الآخرين مناقشتها أو حتى مجرد الاطلاع عليها.
ورافقت ظهور الجيل الثالث من الملاك تحديات رئيسية تمثلت غالباً في الصراع على السلطة والإدارة، ونشأ هذا الصراع – أخذ طابعاً خفياً في معظم الأحيان إلا أنه كان ظاهراً للأعين والعيان في بعضها الآخر- عن اختلاف التنشئة والتربية بين الجيلين الثاني والثالث. وبدت الخلافات بين أطراف الجيل الثالث تتسع لتشمل كيفية تقسيم التركة بعد وفاة المؤسس أو أفراد الجيل الثاني والإصرار على الجمع بين الملكية والإدارة التي غالباً ما تفتقر للمهنية مما أدى إلى فقدان الرؤية وغياب التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى وانعدام الرقابة.
وكان لحالات كثرة الإخوة غير الأشقاء دور مهم في نشوء صراعات حول السلطة والتداخل بين الإخوة وخاصة غير الأشقاء ناهيكم عن التدخلات التي تنشأ بين الزوجات، وزوجات الأبناء، وأزواج البنات والتي كانت تسهم أحياناً في تفكيك كيان الأسرة ومطالبة كل فرد بالانفصال والحصول على حصته من المنشأة العائلية. وفي هذا السياق، يقدر خبير متخصص في قانون الشركات العائلية أن قيمة النزاعات والقضايا المالية بين الشركاء في الشركات العائلية السعودية تتجاوز 300 مليار ريال في المحاكم السعودية. وكان لغياب الحوكمة دور في تفعيل تلك الخلافات العائلية، وتقدر مصادر المراقبين أن 15 في المائة فقط من هذه الشركات تطبق الأسس الصحيحة للحوكمة. بينما يؤكد خبراء ومختصون في مجال حوكمة الشركات أن غياب الحوكمة يجعل نحو 85 في المائة من الشركات العائلية مهددة بالزوال بعد الجيل الثالث.
وتستدعي هذه التحديات ضرورة وضع ميثاق عائلي للشركة كما في العديد من الدول الغربية، يحظى بقبول أفراد العائلة، ويكون بمثابة مرجع لضمان استمرار الشركة واستقرارها ونموها. ويكون هذا الميثاق أساساً لرسم السياسات الاستراتيجية ومرجعاً لاتخاذ القرارات الجوهرية التي تؤثر في مستقبل الشركة، ويتضمن عادة القضايا الجوهرية المهمة التي تؤثر في حياة الشركة العائلية مثل تحديد رسالتها التي تعكس غاياتها وأهدافها، وبيان حقوق الملكية في الشركة من حيث نشأتها وانتقالها وانتهائها.

الحلول المطروحة
إزاء هذه الإشكالات التي تواجه ستمراريتها تجد الشركات العائلية نفسها أمام أحد البدائل التالية: إما الاندماج أوالبيع أو التحول إلى شركات مساهمة أو الانقراض. ويجمع العديد من المراقبين في منطقة الخليج العربي ببعض الحماسة، على أن الحل الأمثل إن لم يكن الوحيد يكمن في التحول إلى شركات مساهمة عامة. وتتمثل الخطوة الأولى في هذا الاتجاه في تثقيف الشركات العائلية بأهمية وكيفية التحول، وأن يتم ذلك من خلال دورات تثقيفية في هذا المجال. ويعلل البعض الآخر هذا التحول إلى شركة مساهمة عامة في أنه يعطي الشركة العائلية مصداقية وقوة أكبر للمنافسة.وأنها تعطى اليد العاملة الوطنية نسبة أعلى في الوظائف.
يزعم العديد من المراقبين أن تحويل الكيانات الاقتصادية العائلية الكبيرة إلى شركات مساهمة عامة يؤدي إلى فصل الملكية فيها عن الإدارة ويعزز من إمكانية نموها واستمرارها والتوسع في أنشطتها، بالإضافة إلى أن إدراج تلك الكيانات في السوق المالية يساعد على تعميق السوق المالية ذاتها، ويصب في مصلحة الملاك والمؤسسين الأساسيين لتلك الشركات في المقام الأول وفي عدم تفرد أحد الملاك بسلطة القرار بحكم السن أو الأقدمية.
يغفل العديد من المراقبين أن فصل الإدارة عن الملكية ليس هدفا" بحد ذاته بل هو الوسيلة لتحقيق الكفاءة، كما أن الطريقة والأسلوب اللذين يتم بهما إدراج أسهم الشركات العائلية المحولة في دول الخليج العربية لا يؤديان بل لا يشيران إلى الفصل بين الملكية والإدارة، فلا تنص الأنظمة على ضرورة تخلي المؤسسين في الشركة محل الإدراج عن معظم الأسهم إذ يستمرون في السيطرة على الشركة سواء في الجمعيات العامة أو مجلس الإدارة. إضافة إلى أن موضوع تعيين أعضاء حياديين في مجلس الإدارة (Independent Directors) يعالج بطرق ملتوية لا تؤدي إلى الغاية المنشودة من إعادة تشكيل مجلس الإدارة، وهي إجراءات تتنافى مع روح وفلسفة وأسلوب عمل الشركات العامة المدرجة.
إن تحويل الشركة العائلية إلى مساهمة عامة بطريقة الطرح العام الأولي للأسهم هو الخطوة الأولى في رحلة هدفها الأساسي خلق قيمة إضافية إلى حصص مساهمي الشركة. ويجب أن ينطلق ليس فقط من زاوية جاهزية الشركة للطرح العام بل يجب أن يتلازم مع تغيير في فلسفة وسلوك المالكين الأصليين بأن إدارة الشركة وديمومتها تعتمدان على العمل كفريق متجانس ومتوافق يهدف إلى تحقيق أهداف الشركة بدلاً من حماية مصالح طرف دون آخر.

الحلول البديلة
إن تحول الشركات من كيان قانوني محدد إلى آخر لم ولن يكون أبداً هدفا في حد ذاته إنما هو وسيلة لتغيير الإطار القانوني للمنشأة بغية تحسين أدائها أو لتحقيق مكاسب معينة لكافة مساهمي الشركة بالتوازي . كما أن قيام الجهات المختصة في صياغة وإقرار نظام خاص بالمنشآت العائلية ينظم كافة شؤونها، ويحكم عملية تأسيسها وإدارتها وتحويلها إلى شركات مساهمة خاصة (مغلقة) هو أمر مرغوب لأنه يقع ضمن إطار وضع النظم الرقابية المناسبة دون الحاجة إلى تحويل الشركات العائلية إلى شركات مساهمة عامة، إذ إنه أمر يرجع أولاً وأخيراً إلى أصحابها دون سواهم.
إن قيام السلطات الحكومية بأي دور أو إجراءات في سبيل تسريع التحول هو خطأ في حد ذاته ولا يعالج المشكلة في جوهرها، كما أن إطارالشركات العامة – بل معظم العائلية منها على الأقل - لن يضمن للشركة الكفاءة المطلوبة لتحقيق المزايا التنافسية؛ وليس تحولا حقيقياً بسبب بقاء سيطرة العائلة بشكل غير مباشر؛ إذ يكمن الحل الحقيقي في التحول المؤسسي (أي الجوهر) لا القانوني (أي الشكل)؛ كما أنه يتمثل في تحديث الإدارة لا مجرد فصلها شكلاً عن الملكية.
وفي هذا السياق يشير البروفيسور يوهان إيكهوف من المعهد الألماني لأبحاث المشروعات الصغيرة في ألمانيا إلى أن الشركات العائلية تتبع أساليب إدارة أفضل بكثير من الشركات المدرجة في الأسواق المالية وتحقق نتائج أفضل ونمواً أثبت. وتميل إدارة هذه الشركات إلى التركيز على تحضير الأجيال المقبلة أكثر من التفكير في النتائج الربعية كما في معظم الشركات العامة أو المدرجة، على أمل أن تؤمن لتلك الأجيال مستقبلاً أفضل. ويضيف إيكهوف أن منظومة التدريب والتأهيل التي تتبعها هذه الشركات تعتبر الأساس في فلسفة تهيئة الأجيال لضمان تحقيق إدارة ذات فعالية وكفاءة. وتعتبر ألمانيا رائدة في مجال التدريب والتأهيل المهنيين مقارنة بباقي الدول الأوروبية مثل فرنسا وإسبانيا حيث يشتكي نحو 50 في المائة من خريجي معاهد التدريب من البطالة.
تتميز منظومة التدريب في ألمانيا – ولسنا نجد مثيلاً لها حتى في الولايات المتحدة - بأنها تقوم بتزويد الشركات الصغيرة (العائلية) باستمرار بأعداد متزايدة من اليد العاملة المؤهلة عالية التدريب المهني العملي. وتبلغ نسبة العمالة المؤهلة التي تحتفظ بها تلك الشركات نحو 83 في المائة من إجمالي خريجي المعاهد. ويرجع تاريخ تلك المعاهد إلى العصور الوسطى حيث بدأ أصحاب المهن اليدوية من بنائين ونجارين وغيرهم في تقديم التدريب المهني الكفء للعمالة التي ترد إليها من مختلف المناطق الأوروبية.

خاتمة
تقدم الشركات العائلية الألمانية مثالاً يحتذى بالنسبة إلى أسلوب وفلسفة الإدارة وتأكيد ديمومتها، حيث إن أكثرها شركات صغيرة لا يمكن أن تعتمد على مبدأ اقتصاديات الحجم كمعظم الشركات العامة المدرجة، فإنها تتبنى بشكل عام استراتيجية التخصص في المنتجات ذات النوعية العالية – وخاصة في المجالين الصناعي والهندسي ما يجعلها أقرب إلى المنتجات التي تصنع حسب متطلبات عملائها ما يجعل العلاقة بينهما علاقة عمل متبادلة الالتزام وطويلة الأجل وأشبه بعلاقة احتكارية إذ لا تتوفر للعميل بدائل أكفأ أو فرص أفضل؛ وأمسى عمل الشركات العائلية فلسفة بدلا من أسلوب عمل؛ وتقتضي هذه الفلسفة ومعايير تطبيقها تغيير أسلوب عمل وإدارة الشركة.
إن غياب هذا التبدل "العضوي" قد يشير إلى دخول الشركة مرحلة الخطر. وتقدم الأحداث التاريخية أمثلة متعددة ونماذج مختلفة كما حدث لشركة كونغو غومي (Kongo Gumi) اليابانية أقدم شركة عائلية في التاريخ إذ يرجع تأسيسها إلى القرن السادس للميلاد. تخصصت الشركة في بناء المعابد البوذية، واستمرت بنجاح مرموق خلال تلك العقود. ويعود السبب في ديموميتها لمدة أربعة عشر قرنا - رغم مرورها بفترات عصيبة خلال القرن التاسع عشر- إلى تخصصها واعتمادها مبدأ الفصل الحقيقي بين الملكية والإدارة الرشيدة ووضوح استراتيجيتها طويلة الأجل. وتغيرت هذه الاستراتيجية فيما بعد مع تغير بنية الأسواق إذ تحول نشاطها الرئيسي من بناء المعابد إلى صناعة التوابيت الفاخرة.
ويقول ماساكازو كونغو Masakazu Kongo الرئيس الأربعون من سلالة الأحفاد إن استمرارية الشركة اعتمدت بشكل رئيسي على المرونة المهنية في اختيار قادة الشركة ولم يكن ذلك منوطا بالالتزام باختيار الابن أو إحدى البنات بل الأكفأ على القيادة المهنية سواء من داخل الشركة أو خارجها. إن إعادة هيكلة الشركة العائلية هي أحد الخيارات المهمة الذي يسمح للعائلات بتطوير شركاتهم وضمان ديمومتها– دون الحاجة إلى التحول إلى شركات مساهمة عامة – ويمكن أن يتحقق ذلك بكفاءة وفق ميثاق عائلي يضع الأسس المناسبة لاختيار القادة والمديرين والاختصاصات ويبين حقوق الشركاء، ويضع ضوابط وشروط نقل الملكية وطريقة تقييم الحصص. وتؤكد التجارب أن من أهم أسباب نجاح عمليات إعادة الهيكلة هي سلامة ودقة عملية تقييم أصول وموجودات الشركات، بما في ذلك اسمها المرتبط باسم العائلة, الذي حقق شهرتها على مدى سنوات عملها. كما تسمح إعادة الهيكلة بتسهيل فصل حقيقي للملكية عن الإدارة، مما يهيئ لوجود مجلس إدارة تنفيذي فعال يكون قادرا على رسم وتطبيق الخطط الاستراتيجية للشركة، واستقطاب الكفاءات المهنية المناسبة، بما في ذلك إدخال أعضاء من خارج العائلة في مجلس الإدارة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي