الموقف الهندي من الأزمة السورية
منذ بدء الأزمة السورية، وانطلاق حرب نظام الأسد ضد شعبه الأعزل ظل الموقف الرسمي للحكومة الهندية أقرب إلى تأييد الأسد منه إلى الوقوف على الحياد ــ على الأقل ــ الأمر الذي أثار عديدا من التساؤلات، وخصوصا أن الهند تعتبر نفسها رمزا للسلام واللاعنف، ونصيرة للشعوب الباحثة عن الحرية والديمقراطية.
يمكن اختصار الموقف الهندي بالقول إنه موقف يعارض التدخل العسكري الخارجي في الصراع من قبل القوى الغربية ما يجعله متناغما مع الموقفين الروسي والإيراني وأيضا مع الموقف الصيني، ويرى أن حل الصراع غير ممكن بالقوة وإنما عبر الحوار "تصريح مسؤول في الخارجية الهندية في عام 2013"، ويرفض تقسيم الإرهاب في سورية إلى حميد وخبيث "تصريح رئيس الحكومة الهندية ناريندرا مودي".
بعض المراقبين الهنود يرى في مواقف بلاده هذه مواقف واقعية وانعكاسا لسياسة التزمت بها نيودلهي طويلا وهي سياسة عدم إقحام نفسها في الشؤون والنزاعات الداخلية للدول الأخرى، إلا إذا تعرضت مصالح الهند الاستراتيجية للتهديد. وهكذا فطالما أن سورية بعيدة عن الهند جغرافيا ولا يشكل ما يجري فيها خطرا عليها في هذه المرحلة، فإن الأفضل النأي بالنفس عن أزمتها المستعصية مع الاحتفاظ بحق التحرك إذا ما تطورت الأمور ونجحت القوى المتطرفة في الوصول إلى السلطة في دمشق وقررت مد أبصارها إلى منطقة الخليج التي تعتبر بالنسبة للهند مصدرا للطاقة والتحويلات المالية وسوقا معتبرا للصادرات الهندية "قال وزير الشؤون الخارجية الهندي السابق سلمان خورشيد شيئا من هذا في تشرين الأول (أكتوبر) 2013 على هامش مشاركته في مفاوضات جنيف ــ2 لحل الأزمة السورية ثم كرره في مقابلة مع رئيس تحرير مجلة "المجلة" السعودية في شباط (فبراير) 2014".
أما البعض الآخر فيرى أن الهند، الطامحة لدخول مجلس الأمن كعضو دائم العضوية، عليها أن تثبت من الآن جدارتها للجلوس بين الكبار، وذلك بلعب دور دبلوماسي بناء يؤدي إلى إيقاف النزيف والدمار المستمرين في سورية منذ أربع سنوات، وذلك عبر استخدام علاقاتها الجيدة مع الدولتين المنخرطتين في الصراع السوري وهما إيران وروسيا، ناهيك عن علاقاتها الجيدة مع القطب الأمريكي وروابطها القديمة مع نظام الأسد، وألا تضحي بعلاقاتها ومصالحها مع العالم العربي الأوسع من أجل نظام منتهي الصلاحية.
الحقيقة أن الفرصة كانت سانحة للهند للعب مثل هذا الدور يوم أن اتفق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الهندي السابق مانموهان سينج في موسكو في تشرين الأول (أكتوبر) 2013 على ترشيح الهند للمشاركة في مفاوضات جنيف ــ2، لكنها لم تستغل تلك الفرصة، بل استبقتها باستقبال بثينة شعبان المستشارة الإعلامية للأسد على أراضيها، فيما ظلت علاقاتها الدبلوماسية مع دمشق قائمة وسفارتها في الأخيرة مفتوحة وتعمل من خلال قائم بالأعمال أي على العكس من دول أخرى كثيرة قررت إغلاق سفاراتها في العاصمة السورية احتجاجا على الممارسات الإجرامية للنظام.
ما سبق يؤكد ويدلل على أن الموقف الهندي أقرب إلى موالاة النظام الأسدي منه إلى تأييد الثورة السورية أو على الأقل اتخاذ موقف محايد في الصراع. لكن ما الأسباب التي تجعل كبرى ديمقراطيات العالم تتبنى مثل هذه السياسة يا ترى؟
بعض الإجابة نجده في ارتباط البلدين منذ نيلهما الاستقلال بعلاقات ود وتعاون وتنسيق وطيدة ومتواصلة، تتوجت في الخمسينات بتبادل الزيارات الرسمية بين بطلي الاستقلال في البلدين، جواهر لال نهرو وشكري القوتلي. هذه العلاقات سرعان ما تعززت بدخول سورية في اتحاد فيدرالي مع مصر تحت قيادة الرئيس عبد الناصر الذي كان صديقا شخصيا لنهرو وشريكا له في إطلاق حركة عدم الانحياز. وحتى بعد مجيء عائلة الأسد إلى السلطة وشروعها في تأسيس حكم دكتاتوري، ظلت العلاقات الهندية السورية وطيدة ومتنامية بدليل قيام الأسد الأب بزيارتين رسميتين إلى نيودلهي في عامي 1978 و1983 وقيام الأسد الابن بزيارة مماثلة في عام 2008، ناهيك عن زيارة رئيس الحكومة الهندية الأسبق أتال بيهاري فاجبايي إلى دمشق، وزيارة رئيسة الجمهورية الهندية براتيبا باتيل إليها في عام 2010.
يمكن القول إن ثلاثة عوامل لعبت دورا في تمتع الطرفين بعلاقات متميزة طيلة هذه السنوات، أولها: مواقف الأنظمة والحكومات السورية المتعاقبة المؤيدة للهند فيما يتعلق بقضية كشمير التي تعتبر قضية مركزية لنيودلهي، مقابل مواقف الهند المشرفة إجمالا من قضية الصراع العربي ـــ الإسرائيلي. وثانيها: ارتباط كلا البلدين على مدى عقود بروابط استراتيجية مع موسكو في مواجهة النفوذ الغربي في منطقتي الشرق الأوسط وجنوب آسيا. وثالثها: نظر كل منهما إلى الآخر كدولة تجسد الفكر العلماني في محيطها. وإذا كان هذا التجسيد في الحالة السورية قد شابه التشوه بتوجهات وسياسات بشار الأسد الحمقاء من أجل البقاء في السلطة، فإنه في الحالة الهندية باقية وصامدة كعنصر جوهري من عناصر استمرارية الكيان الهندي متعدد الأعراق والثقافات والديانات.
تتبين لنا أسباب الموقف السوري بصورة أجلى إذا ما أضفنا إلى ما سبق بيانه حقيقة أن الهند قلقة من احتمالات صعود الإسلام السياسي المتطرف إلى السلطة في دمشق كبديل لنظام الأسد. ذلك أن نيودلهي تتملكها حساسية مفرطة من حركات الإسلام السياسي على نحو ما ظهر في مواقفها من حركة طالبان الأفغانية والتنظيمات المتحالفة مع الأخيرة في جنوب ووسط وجنوب شرق آسيا، فما بالك حينما تكون هذه الحركات ذات أجندة إرهابية ووحشية كما هو الحال مع تنظيمي داعش والنصرة في سورية اللذين هما نسخة طبق الأصل من تنظيم القاعدة الذي سبق له، على لسان زعيمه أيمن الظواهري، أن هدد الهند صراحة في العام الماضي.
وإذا كان هذا هو الموقف الرسمي الهندي فإن الموقف الشعبي مختلف تماما وتجسده التعليقات والأعمدة التي تظهر في الصحافة الهندية الحرة، وكلها تنتقد الممارسات الوحشية لنظام الأسد، خصوصا بعدما شاعت في وسائل الإعلام التقليدية والحديثة صورة الطفل الكردي الغريق إيلان، ومشاهد تدفق اللاجئين السوريين على أوروبا، وارتكاب الدواعش جرائم دموية وحشية، وآثار القصف الجوي المتواصل على المدن والبلدات والمدنيين العزل. بل إن مسؤولين هنودا سابقين من أمثال سفير الهند الأسبق في دمشق بين عامي 1992 ــ 1996، ووكيل خارجيتها بين 2001 ــ 2004 راجيندرا أبينكار قال لصحيفة "وول ستريت جورنال" إن بلاده ملزمة إنسانيا وأخلاقيا القيام بدور في الأزمة السورية بعدما نصحت نظام الأسد مرارا بضرورة التخلي عن النهج الديكتاتوري والقمعي والاستماع إلى رغبات الشعب، فلم تصغ إلى نصائحها.