التحول الرقمي وأثره في الاقتصادات الناشئة
يشهد العالم اليوم تحولاً جذرياً تقوده التكنولوجيا الرقمية، حيث لم تعد الاقتصادات الحديثة تعتمد فقط على الموارد الطبيعية أو الصناعات التقليدية، بل أصبحت البيانات والابتكارات التقنية من أهم مقومات النمو الاقتصادي. ومع هذا التطور، تبرز أهمية التحول الرقمي كأداة رئيسية لتمكين الاقتصادات الناشئة من اللحاق بركب التقدم العالمي. تعد الاقتصادات الناشئة ساحات خصبة للتغير السريع، كما أن التحول الرقمي لم يعد رفاهيةً بل ضرورةً إستراتيجية تُحدث تحولاً جذرياً في نسيجها الاقتصادي والاجتماعي.
يسهم التحول الرقمي في تسريع وتيرة الابتكار وريادة الأعمال من خلال خفض الحواجز، حيث توفر المنصات الرقمية وخدمات الحوسبة السحابية والتطبيقات مفتوحة المصدر أدوات بأسعار معقولة لرواد الأعمال والمشاريع الصغيرة والمتوسطة. كما يسهم التحول الرقمي في الوصول إلى الأسواق المحلية والعالمية، متخطياً الحواجز الجغرافية والتوزيعية التقليدية. ينتج عن هذا كله ظهور نماذج أعمال جديدة قائمة على المشاركة الاقتصادية والمالية الرقمية Fintech، والخدمات اللوجستية الذكية.
تضاف مزايا زيادة الإنتاجية والكفاءة التي يحدثها الاعتماد على هذه النماذج المبنية على أتمتة العمليات من خلال تبسيط العمليات في الزراعة (الزراعة الذكية)، والتصنيع (المصانع الذكية)، والخدمات اللوجستية، ما يقلل التكاليف والهدر. يسهم التحول الرقمي في إدارة سلاسل التوريد بتحسين الشفافية والتتبع والكفاءة. إضافة إلى الوصول إلى المهارات والمعرفة بفضل المنصات التعليمية عبر الإنترنت والتدريب الرقمي التي تخلق فرصاً لتطوير المهارات المطلوبة في سوق العمل المتغيرة.
توفر التقنية عمليات شاملة مالياً واقتصادياً بما يضمن وصول الخدمات المالية لملايين الأشخاص غير المتعاملين مع البنوك التقليدية، حيث تتيح حلول الدفع عبر الهاتف المحمول والتحويلات الرقمية والتمويل الصغير والقروض القائمة على البيانات فرصاً غير مسبوقة، وتمكن الشركات متناهية الصغر من إنشاء الحسابات وإدارة المعاملات والوصول إلى التمويل.
لعل من أهم مزايا التحول الرقمي تحسين الخدمات العامة ودعم الحوكمة التي يمكن أن تتم إلكترونياً من خلال إجراءات سهلة في تسجيل الشركات ودفع الضرائب وتجديد التراخيص بما يوفر الشفافية ويلغي الفساد، ومنها تحسين الخدمات المقدمة سواء كانت صحية أو تعليمية، وتسهيل تقييمها من قبل المستخدمين عن طريق قنوات الحوار الإلكترونية.
تسهل التكنولوجيا للاقتصادات الناشئة تجاوز مراحل التطوير الطويلة مثل الانتقال من الهاتف الثابت إلى الهواتف الذكية، وكذلك من غياب الخدمات المصرفية إلى المصرفية المالية الرقمية.
يسهم هذا كله في تعزيز الإنتاجية من خلال الذكاء الاصطناعي وتقنيات الأتمتة في القطاعات الصناعية والخدمية بالمساهمة في خفض التكاليف وزيادة القدرة التنافسية. كما يسمح بفتح أسواق جديدة من خلال التجارة الإلكترونية التي تدعم الصادرات وتزيد من تدفق العملات الأجنبية. وتحسين الشمول المالي بتوفير وسائل مالية وقنوات مصرفية متعددة تسمح بإدراج شرائح واسعة من المجتمع في النظام المالي خصوصاً في المناطق الريفية التي تعاني عدم توافر الخدمات البنكية التقليدية.
هناك عدد من التحديات التي تواجه الدول الناشئة، من أهمها ضعف البنية التحتية الرقمية كشبكات الإنترنت من ناحية الانتشار أو ارتفاع التكلفة، ومخاطر الأمن السيبراني المتعلقة بالقرصنة وسرقة البيانات، ما يستدعي بناء أنظمة حماية قوية. إضافة إلى نقص الكفاءات المؤهلة للتعامل مع التقنيات الحديثة، ما يحجِّم الاستفادة من فرص الاقتصاد الرقمي.
مع ذلك ظهرت تجارب ناجحة في عدد من الدول من أهمها الهند التي أصبحت مركزاً عالمياً لتقنية المعلومات وخدمات التعهيد، ومن ضمن التجارب المهمة رؤية المملكة 2030 التي تعد توجهاً جاداً في بناء اقتصاد رقمي متكامل. أنشأت كينيا نظام إم بيسا للدفع عبر الهاتف الجوال ما سرَّع عجلة الاقتصاد بقوة، وهناك تجارب مهمة أيضاً في دول جنوب شرق آسيا في مجال منصات التجارة الإلكترونية والخدمات المالية الرقمية التي دعمها انتشار استخدام الهواتف الذكية.
يمثل التحول الرقمي فرصة ذهبية أمام الاقتصادات الناشئة لتعزيز النمو وتحقيق الاستدامة الاقتصادية. ومع ذلك، فإن استغلال هذه الفرصة يتطلب استثمارات جادة في البنية التحتية، وتطوير التشريعات الخاصة بحماية البيانات، إضافة إلى الاستثمار في التعليم والتدريب لبناء جيل يمتلك المهارات الرقمية اللازمة، لأن الدول التي ستتمكن من تسريع خطى التحول الرقمي ستكون الأقدر على المنافسة وتحقيق الازدهار في المستقبل.
كاتب اقتصادي