انشقاقات في صفوف التنظيمات الإرهابية

إن كان لظهور ما يسمى تنظيم داعش المتوحش من حسنة، فإن هذه الحسنة - حسب البعض - تمثلت في قيام المجتمع الدولي بتحرك جاد ضد التيارات والتنظيمات التي تتبنى مبدأ العنف والإرهاب ضد الدول والأفراد والمجتمعات الآمنة عبر سلسلة من الإجراءات على رأسها العمل العسكري المشترك. نقول ذلك على الرغم من حقيقة أن الطلعات الجوية للقوات الأمريكية وقوات الدول الحليفة ضد مقاتلي "داعش" في العراق وسورية أكسب الأخير دعما لم يكن يحلم به في صفوف بعض التيارات الإسلامية المتشددة، إلى الدرجة التي وصف فيها أحدهم "داعش" بالمغناطيس الذي صار يجذب أعدادا كبيرة من المسلمين وغير المسلمين من المحبطين واليائسين والمأزومين فكريا أو ممن لهم ثارات مع الولايات المتحدة الأمريكية، خصوصا منذ أن أعلن المدعو أبو بكر البغدادي قيام دولة الخلافة الإسلامية وتنصيب نفسه "خليفة للمسلمين".
وطبقا للتقارير الإخبارية ومصادر المخابرات الغربية فإن هناك اليوم رجالا أو نساء يقاتلون في صفوف هذا التنظيم من 47 جنسية منها: الجنسيات السعودية والكويتية والبحرينية والعراقية والسورية واليمنية والجزائرية والتونسية والمغربية والليبية والفلسطينية والمصرية واللبنانية والأردنية والسودانية والتركية والسنغالية والإريترية والإندونيسية والماليزية والصينية والباكستانية والقوقازية والبريطانية والفرنسية والألمانية، وغيرها. غير أن لظهور "داعش" حسنة أخرى هي الانشقاقات المتتالية التي بدأت تعانيها التنظيمات الإرهابية المتطرفة الأم ممثلة في "جماعة طالبان" و"تنظيم القاعدة" تحديدا. فالمعلوم أنه كانت هناك صلات وثيقة لتنظيم "داعش" مع تنظيم القاعدة حتى فبراير 2014، وفي الفترة اللاحقة لهذا التاريخ، التي شهدت صراعا على النفوذ بين الطرفين، أعلنت القاعدة قطع كل علاقاتها مع "داعش" تحت مبرر سوء سمعته ورفضها وحشيته. وعلى الرغم من أن "داعش" حاول إعادة التواصل مع القاعدة قبل عدة أشهر حينما وجه المتحدث باسمه "أبو محمد العدناني" نداء إليها لإبداء رأيها في إعلان تأسيس دولة الخلافة واختيار البغدادي خليفة للمسلمين، إلا أن القاعدة آثرت الالتزام بالصمت.
إلا أن هذا الصمت كان له أثر عكسي فيها. إذ سرعان ما رأينا عديدا من الجماعات والشخصيات المحسوبة عليها تعلن مبايعتها الصريحة للبغدادي ونصرتها لـ"داعش" على نحو ما فعلت مجموعة من تنظيم قاعدة المغرب بقيادة "أبو عبدالله عثمان العاصمي"، وإن كانت القيادة الأصلية لهذا التنظيم قد نأت بنفسها عن ذلك علنا، الأمر الذي يشي بوجود انقسام في صفوفه وازدواجية في مواقفه. وقد تكرر هذا الأمر مع تنظيم "أنصار الشريعة في تونس" الذي أعلن عدد من قياداته مثل سيف الدين الرايس وكمال مرزوق وبلال الشواشي تأييدهم واصطفافهم مع "داعش"، متخلين بذلك عن رفاقهم في التنظيم وعن الجماعة الأم (القاعدة). وعلى المنوال نفسه أعلنت جماعة "أنصار بيت المقدس" المصرية العاملة من غزة انسلاخها عن جماعة الإخوان المسلمين وانضمامها إلى "داعش" متهمة الإخوان بتبني نهج "السلمية المخربة والديمقراطية الكافرة"، كما أعلن تنظيم "أنصار الشريعة" في اليمن بقيادة المدعو مأمون حاتم المحسوب على القاعدة انسلاخه عن الأخيرة وانضمامه إلى "داعش".
أما العجب العجاب فقد جاءت به جماعة "بوكو حرام" النيجيرية المتطرفة التي أعلنت ثلاثة مواقف متناقضة في آن، الأمر الذي يشير إلى غباء زعيمها "أبو بكر شيكاو" وخواء فكره. حيث أعلن الأخير قيام الدولة الإسلامية في الأراضي التي يسيطر عليها (ولاية بورنو في شمال نيجيريا)، وتأييد الظواهري زعيم القاعدة، والملا محمد عمر زعيم طالبان، ومبايعة البغدادي.
وقد امتدت انشقاقات الجماعات الإسلامية المتطرفة (يرجعها المحلل السياسي البريطاني تشارلي كوبر إلى حقيقة تعدد الخلايا المكونة لهذه الجماعات وبالتالي اختلاف نظرة كل واحدة إلى حد ما) إلى آسيا. ففي إندونيسيا مثلا أعلن أبو بكر باعاشير، الذي يقضي حكما بالسجن لمدة 15 عاما كعقوبة على قيادته تنظيم "الجماعة الإسلامية" الإرهابي المتحالف مع القاعدة، وتأسيسه معسكرات تدريب في سومطرة لمصلحة القاعدة، مبايعته "داعش" والبغدادي وسط رفض عدد من أنصاره. وفي الفلبين ظهر شريط فيديو يصور مجموعة من عناصر جماعة "أبو سياف" الإرهابية المعروف ارتباطها بالقاعدة وهم يناصرون "داعش" بدلا من القاعدة، ويبايعون البغدادي بدلا من الظواهري. وتفسر بعض الدراسات هذا المنحى بفشل أيمن الظواهري في الوصول إلى الجهاديين والمتطرفين الإندونيسيين والفلبينيين والإنفاق عليهم بالطريقة التي كان يتبعها سلفه أسامة بن لادن، ناهيك عن أن الظواهري لم يحقق أي شيء بعد خلافته لبن لادن فيما البغدادي يتوسع ويتمدد في أكثر من بلد.
هذا عن جنوب شرق آسيا. أما في جنوب آسيا فإن المشهد يؤكد تمزقا أوضح في أوساط الجهاديين ما بين الولاء للأفغاني الملا عمر، والمصري الظواهري، والبغدادي. ولعل أبرز الانشقاقات عن التنظيم الإرهابي الأم (القاعدة أو طالبان) تمثل في تأكيد حركة "طالبان باكستان" عبر أحد قادتها (أبو يزيد عبدالقادر الخراساني) ولاءها لـ"داعش" في بيان لها على مواقع التواصل الاجتماعي، وقيام جماعة "جند الله" (جماعة منشقة عن طالبان باكستان ومتهمة بقتل كثيرين من الشيعة الباكستانيين وتفجير كنيسة في كراتشي) بالشيء نفسه على أثر اجتماع بين ثلاثة من قادتها برئاسة المدعو "زبير الكويتي" مع البغدادي. وكانت جماعة "عسكر جنجوي" الباكستانية المحظورة قد سبقت الكل في الانسلاخ عن القاعدة وطالبان والانضمام إلى "داعش".
ومن المتوقع حدوث انسلاخات تدريجية أخرى في صفوف الحركات الجهادية في باكستان (المرتع الأكبر للمتطرفين) لتصب في مجملها في مصلحة "داعش". ففي الآونة الأخيرة تم رصد مجموعات متطرفة في بيشاور وهي توزع منشورات تشيد بـ"داعش"، وشوهدت أعلام "داعشية" لأول مرة في شوارع الجزء الباكستاني من كشمير، ناهيك عن إشادة قيادة إسلامية باكستانية بارزة مثل "مولانا فضل الرحمن" بـ"داعش"، وهو المعروف بدفاعه المستميت عن "طالبان" و"القاعدة" وتفرعاتهما.
ونختتم بالقول تعددت الأسماء والمنهج واحد. فجماعات القاعدة وطالبان وبوكو حرام و"داعش" وغيرها هي من العجينة نفسها. بمعنى أن أفكارها تتقاطع أو أنها ذات منهج وأجندات واحدة تقوم على الإرهاب وسفك الدماء وإهدار الكرامة الإنسانية تحت ستار فرض أحكام الشريعة الإسلامية السمحة البريئة من هكذا جماعات ومن ينتسبون إليها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي