بعد أربعين عاماً: ماذا بقي من "النكسة"؟
قبل 40 عاماً وفي الخامس من حزيران (يونيو) 1967 نشبت الحرب العربية – الإسرائيلية الثالثة، بقيام القوات الإسرائيلية بالهجوم على ثلاث دول عربية في الوقت نفسه، هي مصر، سورية، والأردن. وفي خلال أيام معدودة كانت الجيوش العربية الثلاثة قد أعلنت هزيمتها وانسحب كل منها مسافات مختلفة إلى الوراء تاركاً وراءه قطعاً غالية من الأرض احتلتها القوات الإسرائيلية، فذهبت كل سيناء المصرية وكل الجولان السورية وكل الضفة الغربية الفلسطينية وفي قلبها القدس التي كانت تحت وصاية أردنية مؤقتة. وفي التاسع من حزيران (يونيو) ظهر للمرة الأولى مصطلح "النكسة" لوصف الكارثة التي وقعت، حين استخدمه الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر في الخطاب الذي وجهه للمصريين وللعرب جميعاً وأعلن فيه استقالته من كل مواقعه السياسية والتنفيذية.
وبعد مرور كل تلك الأعوام الطويلة على "النكسة" كما شاع اسمها أو الهزيمة كما يفضل البعض تسميتها دون مواربة، لا يزال كثير من آثارها وملامحها باقيا ومخيما على الأوضاع العربية على الرغم من كل المياه التي جرت في أنهار الحياة طوال ذلك الوقت. وأول الآثار والملامح التي لا يمكن نكرانها ولا إخفاؤها لأنها مادية ملموسة تخرق الأعين هي أن الاحتلال الإسرائيلي الغاشم لا يزال مهيمناً على كل الأراضي السورية التي استولت عليها الدولة العبرية في 1967 ومعها كل الأراضي الفلسطينية وفي قلبها القدس، بل وأضاف إليها قرية صغيرة في الجنوب اللبناني هي مزارع شبعا. وعلى الرغم من أن كل العرب قد خاضوا في السادس من أكتوبر 1973 وراء مصر وسورية حرب إعادة الكرامة وبعض الأرض التي سلبت قبل أعوام ستة، فإن أهم ملامح النكسة المادية، أي الاحتلال، قد ظل كما هو حتى اليوم. فقد استطاعت حرب تشرين الأول (أكتوبر) أن تكسر حاجز الخوف العربي من القوة الإسرائيلية وتنهي أسطورة الجيش الذي لا يقهر، إلا أن توازنات القوى الدولية حينئذ والمساندة الأمريكية الهائلة والكاملة للدولة العبرية حالت دون تحرير الأرض المحتلة عدا شريط صغير على الضفة الشرقية لقناة السويس في سيناء المصرية. وبعد انتهاء الحرب، لم تستمر روح تشرين الأول (أكتوبر) الجديدة لدى النظم العربية طويلاً، فسرعان ما تفتتت الجبهة العربية الموحدة وتحرك كل نظام بمفرده وفي مقدمتها مصر الرئيس السادات الذي زار إسرائيل وعقد معها معاهدة سلام منفردة عام 1979 ترتب عليها انسحاب قواتها من سيناء نهائياً عام 1982 في ظل أوضاع عسكرية وسياسية واجهت معارضة واسعة لها داخل مصر. وبعد أكثر من عقد آخر خطا الأردن عام 1994 الخطوة نفسها بعقد معاهدة سلام خاصة به مع الدولة العبرية، وإن لم يرتبط بها أي التزام إسرائيلي بالانسحاب من الأراضي الفلسطينية التي كانت تحت الإشراف الأردني وتم احتلالها في نكسة 1967.
ولم يبق فقط من النكسة بعد أربعين عاماً من وقوعها إلا أن معظم الأراضي التي ضاعت أثناءها ظلت خاضعة للاحتلال الإسرائيلي، بل بقي أيضاً أن حالة التمزق وفقدان الثقة لدى النظم العربية وكثير من قطاعات المجتمعات العربية في نفسها قد ظلت أيضاً قائمة. فعلى الرغم من أن حرب تشرين الأول (أكتوبر) قد أعادت لهم بعضاً منها واستطاع الصمود الفلسطيني – اللبناني في مواجهة الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 أن يعيد بعضاً آخر، وتكفلت الانتفاضات الفلسطينية المتعاقبة بإعادة أجزاء أخرى من الثقة العربية المفتقدة، وأتى الصمود اللبناني الأخير في الصيف الماضي في وجه العدوان الإسرائيلي لكي يضيف جزءاً إضافياً من الثقة، إلا أن كل ذلك لم يعد لمّ الصف العربي إلى وحدته ولا القدرة العربية على مواجهة التهديدات الإسرائيلية التي تزايدت إلى أقصى نقاطها التي وصلتها أثناء حرب أكتوبر. ولا شك أن بقاء مشاعر النكسة القاسية والمؤلمة طوال تلك السنوات لم يكن فقط حصيلة للاعتداءات والسياسات الإسرائيلية المتواصلة المتعاقبة، بل ساهمت فيه أيضاً سياسات بعض الدول الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية التي ظلت طوال الوقت تساند الدولة العبرية بلا حدود وتضغط على النظم العربية بلا توقف من أجل قبولها تحقيق المصالح الإسرائيلية في المنطقة كلها. وليس هناك أيضاً أدنى شك في أن استمرار الشعور العميق بالنكسة في المجتمعات العربية قد نتج أيضاً عن عديد من سياسات بعض النظم العربية داخل بلدانها وفيما بينها، والتي زادت من سوء وتعقيد الأوضاع الداخلية في المجتمعات العربية أو العلاقات بين الدول العربية نفسها.
الخلاصة أنه بعد 40 عاماً من ثاني أكبر الهزائم العربية على يد إسرائيل بعد ضياع فلسطين عام 1948، وعلى الرغم من تتابع عديد من الظواهر الإيجابية والنبيلة في المجتمعات العربية أثناءها، لا تزال أجواء النكسة المادية والمعنوية مخيمة على أرجاء العالم العربي بصور مختلفة من بلد إلى آخر. ويبقى أن استمرار تلك الأجواء الكئيبة لم يكن فقط نتيجة لسياسات وأوضاع عامة سواء كان مصدرها الدولة العبرية أو الدول الكبرى أو النظم العربية، بل ساهم في استمرارها بصورة واسعة جوقة كبيرة من بعض قطاعات النخب العربية راحت – ولا تزال – تنشر بلا توقف طوال تلك السنوات مشاعر اليأس والإحباط والاستسلام في مختلف قطاعات المجتمعات العربية.