المعالجة الشاملة للإرهاب: بمنظور استراتيجي
تلقى أبناء الوطن البيان الرسمي لوزارة الداخلية أخيرا حول إلقاء القبض على 172 متورطاً في سبع خلايا إرهابية وبحوزتهم قدر من المال والسلاح، للقيام بأعمال إجرامية تستهدف أمن الوطن والمواطنين على حد سواء، بمشاعر وأحاسيس وطنية متعددة: أولها الحمد والشكر لله عز وجل أن جنب هذا الوطن الغالي فحش كيد الفئة الضالة وسوء تدبيرهم على يد رجال الأمن الذين يكن لهم المجتمع كل المحبة والإعزاز والتقدير للتضحيات الكبيرة التي يقدمونها وفي مقدمتها، بذل أرواحهم كشهداء للواجب تغمدهم الله بواسع رحمته، أما ثانيها فهو الأسى والحزن على أن معظم المتورطين في هذا العمل المشين من أبناء هذا الوطن المعطاء الذي اكتنفهم بالفضل والجميل فبادلوه نكراناً وجحوداً، أما ثالثها فهو الخوف المشوب بالترقب والحذر مما ستحمله الأيام المقبلة عطفاً واستذكاراً لما حملته الأيام الخوالي من أحداث أليمة، وفي الوقت نفسه الإيمان المليء بالثقة والعزم أن المجتمع السعودي قيادة وشعباً قادرون بحول الله وقوته على مواجهة الإرهاب والتصدي له طال الزمن أم قصر .
وفي إطار الرؤية التي طرحها في حديثه الصحافي، الأمير نايف بن عبد العزيز، يحفظه الله، والنابعة من معاناته الشخصية بحكم اختصاصاته ومسؤولياته الأمنية، أوضح بشكل صريح أن المواجهة الأمنية بالرغم من نجاحاتها المتميزة في التصدي للعمليات الإرهابية لا تكفي لوحدها لتحقيق الأهداف المرجوة بالشكل المطلوب، وأكد سموه على أهمية تضافر جميع الجهود ليس من قبل المؤسسات المجتمعية فحسب، بل من قبل المواطنين فرداً فرداً. إن هذه الرؤية التي تأتي مصداقاً للهدي النبوي الكريم: كلكم راع وكل راع مسؤول عن رعيته، يمكن اعتبارها رؤية جامعة مانعة تنطلق من خلالها استراتيجية وطنية للمعالجة الشاملة للإرهاب في بلادنا الغالية.
واستناداً إلى تلك الرؤية الثاقبة التي تؤسس لبداية مرحلة جديدة في مواجهة الإرهاب والتصدي له فإن استراتيجية وطنية تناط مسؤوليتها إلى جهة محددة، وتخصص لها ميزانية تستجيب لبرامجها المتعددة، وتندرج في خطط التنمية بوصفها تعالج إحدى القضايا الأساسية التي تهدد منجزاتنا ومكتسباتنا التنموية يعد مطلباً ضرورياً لإرساء قواعد الأمن الوطني. وفي تقديري أن "مجلس الأمن الوطني" قد يكون الجهة المناسبة التي تضطلع بهذه المسؤولية من خلال القيام بدور إشرافي محاسبي على مختلف المؤسسات المجتمعية فيما يتعلق بتمويل وتنفيذ وتقويم البرامج المتعددة ذات الصلة بمعالجة الإرهاب من حيث رصد شبكاته الداخلية والخارجية وسد منابعه وتجفيف مصادر دعمه المالي وإلغاء روافده الفكرية المتطرفة وبتر أصوله العقدية المنحرفة.
ومن المؤكد أن الاستراتيجية الوطنية للمعالجة الشاملة للإرهاب لابد لها من إشراك المؤسسات المجتمعية كافة جنباً إلى جنب المؤسسة الأمنية، وفي مقدمتها المؤسسات الأسرية والتعليمية والدينية والإعلامية والترفيهية والاجتماعية والبلدية بوصف تلك المؤسسات ذات تأثير كبير على التنشئة الاجتماعية للناشئة والشباب من أبناء هذا الوطن.
وفي هذا الإطار، يتوقع أن تتضمن برامج الاستراتيجية، ما يركز بعضها على "التنمية الأسرية" ومعالجة القضايا الثقافية والتربوية والاقتصادية والاجتماعية المرتبطة بها بما يعزز الوعي والترابط الأسري ويكفل سبل العيش والحياة الكريمة لأفرادها، إذ إن تدني الوعي أو التفكك الأسري وما يصحبه من عوز مادي يهيئ أرضاً خصبة لتوليد بعض المنحرفين الذي قد يسهل التغرير بهم في ممارسة الأعمال الخارجة عن القانون على وجه العموم أو ربما يسهل تجنيدهم في منظومة العمل الإرهابي على وجه الخصوص.
وفي السياق نفسه يتوقع أن تتضمن برامج هذه الاستراتيجية الوطنية ما يتناول إصلاح المنظومة التعليمية ولا سيما ما يتعلق باختيار كوادرها القيادية وهيئاتها التدريسية وتطوير برامجها ومناهجها الدراسية ولوائحها وصلاحياتها الإدارية في إطار مفهوم التربية للمواطنة، إضافة إلى تعزيز الثقافة التنظيمية في المؤسسات التعليمية التي تنبذ الفكر المتطرف وترفض الغلو والتعصب أو الإقصاء أو التهميش، وتدعو إلى الحوار واحترام الرأي في إطار الوسطية والاعتدال لشريعتنا الإسلامية السمحة.
ومن المؤكد في السياق ذاته، أن تنال المؤسسات الدينية نصيباً من برامج الخطة الاستراتيجية الوطنية لمواجهة الإرهاب, حيث تركز على الدور المحوري للعلماء وأئمة المساجد في تبصير جميع شرائح المجتمع بمزاعم وافتراءات الفكر التكفيري بأسلوب مقنع ومشوق، وتقف بقوة وحزم من ممارسات بعض الأئمة الذين قد يذكر بعضهم تصريحاً أو تلمحياً، بقصد أو دون قصد بعض الإيماءات والإشارات التي قد تضر بنسيج الوحدة الوطنية أو قد تحتمل التأويل بما لا ينسجم تماماً مع توجهات الفكر الإسلامي المعتدل. ولابد من التنويه في هذا المقام بأن مثل هذه الممارسات لا تصدر إلا من القلة، أما الغالبية العظمى من الأئمة فهم دعاة للوسطية والاعتدال، كما أن ما ذكر عن بعض الأئمة أو الدعاة ينسحب على بعض أولياء الأمور من الآباء والأمهات والمعلمين وأساتذة الجامعات والإعلاميين وغيرهم من أفراد المجتمع من ذوي الصلة بتربية الناشئة والشباب.
أما المؤسسات الإعلامية فلابد لها من أن تحظى ببعض البرامج المتعلقة بالخطة الاستراتيجية الوطنية للإرهاب بوصف هذه المؤسسات أداة تربوية جماهيرية ذات تأثير واسع النطاق، وبما يعزز الشفافية والمصداقية ويتيح تعدد الآراء ووجهات النظر مع توظيف فنون الإعلام والاتصال بما يحقق أهداف المعالجة الشاملة للإرهاب والتطرف الفكري.
وليس بخاف ما لبقية مؤسسات المجتمع سواء الترفيهية أو الاقتصادية أو الاجتماعية أو البلدية أو غيرها من دور لا ينبغي للخطة الاستراتيجية الشاملة لمواجهة الإرهاب إغفاله، فعلى سبيل المثال لا الحصر هناك حاجة ماسة إلى التوسع في برامج الترفية البريء للذكور والإناث، أطفالاً وشباباً بما يؤدي إلى استغلال أوقات الفراغ وتفويت الفرصة على المتربصين من التغرير بهم، أما ما يتعلق بالمؤسسات الاقتصادية فإن برامج مراقبة الحسابات والأرصدة والصفقات المشبوهة تلعب دوراً مهما في تتبع التمويل الإجرامي. أما ما يخص المؤسسات الاجتماعية فإن برامج الدعم المادي والمعنوي للأسر الفقيرة والمحتاجة ستقطع دابر الانضمام إلى معسكرات الفئة الضالة تحت ضغوط العوز والحاجة.
وأخيراً فإن المؤسسات البلدية وعلى وجه الخصوص برامج الإدارة المحلية الممثلة في عمد الأحياء، تلعب دوراً فاعلاً في المتابعة الميدانية اللصيقة لتجمعات الممارسات الفكرية والإرهابية المشبوهة، فضلاً عن أنها وسيلة ناجعة للتعبئة الجماهيرية على مستوى الأسر والأفراد في المجتمعات المحلية.
من هذا المنطلق فإن جميع المؤسسات المجتمعية ينبغي أن تنال قدراً متوازناً من البرامج التي تتضافر مع غيرها من برامج المواجهة الأمنية والفكرية بما يفضي إلى اجتثاث رؤوس الفتنة من قيادات العمل الإرهابي والفكر التكفيري مع الاستمرار في التوسع في "برنامج المناصحة" لمن لم تلطخ أيديهم بعمل إجرامي، أما من غرر بهم من أبناء هذا المجتمع، فمن حقهم علينا جماعات وفرادى أن نمد لهم يد العون لإعادتهم إلى جادة الحق والصواب.
إن الاستراتيجية الوطنية الشاملة ضد الإرهاب تمثل منعطفاً رئيساً لأسلوب جمعي منظم يواجه الإرهاب بمنظور شمولي فعال، ومما لا شك فيه أن قضية الإرهاب تمثل أولوية وطنية قصوى، كما أن مهمة الاستراتيجية الوطنية من أقدس المهمات لتحقيق الأمن الوطني الشامل في المستقبل القريب والبعيد معاً.