من صدام الحضارات إلى الهويات القاتلة
في تسعينيات القرن الماضي تدفقت الكتابات حول أطروحة صموئيل هنتنجتون عن صدام الحضارات.. اعتبرها البعض "طبخة" سياسية، لا سيما وقد نشرت في مجلة «شؤون خارجية» الأمريكية.. واعتبرها بعض آخر تصورا خاصا بكاتبها تحت تأثير ثقافة مهووسة بالقوة والتفوق ومثال السوبرمان أو "رامبو" الأمريكي الذي يهزم كل الأعداء. بل يسعى إلى خلقهم حين لا يجدهم! وما دام العدو "السوفييتي" قد انهار بالحرب الباردة معه وانتصرت الإمبريالية على الشيوعية فليكن البديل الانتقال إلى عداوة جديدة ممثلة في اتباع الديانات في حضارات الشرق والعالم العربي والإسلامي تحت عنوان صدام الحضارات.
غير أن هذا الصدام لم يحدث قط، رغم مرور أكثر من عقدين على أطروحة هنتنجتون، وإنما حدث على نحو مغاير تعاظم عنف الأقليات كما في ميانمار أو في الصين وفي جمهوريات روسيا والهند، باكستان، أفغانستان، وبعض بلدان إفريقيا، فضلا عن تنظيمات جماعات الإسلام السياسي في العالم العربي، إلى جانب صدامات إثنية وقومية وطائفية ومذهبية في بلدان أخرى.. وقد شكل ذلك كله ظاهرة أطلق عليها الكاتب اللبناني أمين معلوف مصطلح "الهويات القاتلة" الذي جعله عنوانا لكتابه عنها.
لا تقتصر الهويات القاتلة طبعا، على الأقليات.. فالأكثرية قومية كانت أم عقائدية لها كذلك هويتها القاتلة حين تستبد في الاستحواذ على غيرها من هويات.. فالشيوعية لم تختلف عن النازية والفاشية في العنف.. يكفي الاستشهاد على ذلك بما كتبه ألكسندر سولجنيتسين في "أرخبيل الجولاج" أو ما كتبته ليونج تشانج في "بجعات برية" عن الوحشية الصارخة التي رزح تحتها ملايين في روسيا والصين مما يدل على أن هوية الأكثرية تصبح أشنع قتلاً حين تسكرها غلبتها على غيرها.
انطلق معلوف في تحديده لمفهوم "الهوية" من "بطاقة الهوية الشخصية"، لتبيان ما تعنيه الهوية مع التنبيه إلى أن كلمة "هوية" نفسها كلمة مضللة، لكنه أكد على أن هوية الفرد تعني أنه لا يشبه شخصا آخر، بل إن كل كائن فريد، وغير قابل بالقوة للاستبدال، فالهوية لا تعطى للفرد مرة واحدة وللأبد، وإنما تتراكم كانتماءات معقدة تكتنفها روح المرء عبر سياق حياته.
ورغم تعدد انتماءات المرء فهي لا تجعله يتطابق أو يشبه سوى نفسه غير أن مجموعة أو جزءا من انتماءاته قد تشكل له هوية قاتلة يمكنها أن تتناغم بدورها مع هوية جماعة أو ملة أو عشيرة تشبهها في استشعار مصدر الخطر، لأن كل فرد – كما يقول معلوف - يتميز بميله للتعبير عن نفسه بأكثر عناصر هويته عرضة للخطر كالإحساس بالإهانة أو السخرية أو التهميش أو القمع.. توفر في النهاية قاسما مشتركا لهوية قاتلة لهذه المجموعة أو تلك!
وقد تساءل معلوف عما إذا كان هذا هو الحال منذ فجر التاريخ؟ إلا أنه ترك السؤال مفتوحا، ربما لكونه يصعب المجازفة بالإيجاب قطعيا.. إذ إن ما قبل التاريخ كان خاضعا لشروط مغايرة للشروط الموضوعية التي استجدت.. وهذا يعني أن فكرة الهويات نفسها لم تبرز سوى لاحقا مع نشوء الدول وظهور القوميات وتداعيات المد الاستعماري ثم أصبحت قاتلة فيما بعد، وبالتالي يتعين تغيير سؤال معلوف ليصبح: إلى أي مدى ستستمر الهويات القاتلة تمسك برقاب البشرية مرة هنا ومرة هناك؟!
قلت في البداية إن صدام الحضارات لم يحدث كما زعم هنتنجتون، وأقول هنا بشكل جازم، إن الصدام كان سمة الماضي فقط، وتكرر حدوثه.. كما مع حضارات: مصر الفرعونية، اليونان، الرومان، السومرية، قرطاجة، الأزدية، الفرس، والعرب... إلخ. أما في الوقت الراهن فواضح أن صراع الهويات القاتلة هو الذي يتسيد المشهد اليوم مثلما تسيده صراع هويات الأكثرية في القرن الماضي!
إلا أن المفارقة العجيبة في هذا هي أن يتزامن (ازدهار) الهويات القاتلة مع "العولمة" التي تعتبر أبرز تجليات الحداثة، وقد أعطى معلوف لهذه المفارقة وصف "القبائل الكوكبية"، كونها تجسد التناقض الحاد الذي يتقابل فيه الأشد انحطاطا بالأسمى تقدما، وتخلق وضعا مأزوما لها يستدعي ضرورة البحث عن "صيغة" تحتكم إليها هذه الهويات لكيلا تكون قاتلة.
الذكاء الإنساني لم يسفر بعد، سوى عن صيغة واحدة، هي الأجدى لتجاوز هذا التأزم وحله، وهي "الديمقراطية"، إلا أن المثير في الأمر حقا هو أن هذه الديمقراطية التي يتم الاستنجاد بها ملاذا من هذا الصراع ليست من إنجازات الحداثة، وإنما ولدت في أثينا.. قبل نحو 25 قرنا .. وبذلك تكاد تكون هي الاستثناء الوحيد في التاريخ كله، الذي جعل الماضي ينجح في قيادة المستقبل.. أو المدى المنظور منه.. حتى يكون القول سديدا.