الاقتصاد الدائري ضرورة اقتصادية
يعد الاقتصاد الدائري تحولا جذريا عن النموذج الخطي الذي ساد خلال القرون الماضية، وهو يوجد تحديات وفرصا. سأحاول هنا أن أعرض الموضوع من خلال نظرة شاملة مبنية على أمثلة واقعية. الفكرة العامة للاقتصاد الدائري تنقل الاقتصاد من الصناعة ثم الاستخدام ثم التخلص من البواقي، إلى إغلاق الفجوة الأخيرة من خلال إعادة التصنيع والتجديد بدلاً من التخلص.
يستهلك العالم 100 مليار طن سنوياً من المواد بمختلف أنواعها 91% منها لا يعاد استخدامها مرة أخرى بسبب عدم وجود تخطيط من البداية لإعادة استخدام هذه المواد، ويهدف الاقتصاد الدائري إلى خفض النفايات بمعدل "الصفر" عبر حلقات إعادة التدوير المغلقة، ومن الأمثلة الثورية في المجال تجربة شركة (DELL) التي تستخدم الذهب المستعاد من إلكترونياتها القديمة بغرض تصنيع لوحات جديدة، وهذا وفر عليها مبالغ تتجاوز 100 مليون دولار.
عند النظر إلى المفاضلة بين الربح والبيئة عندما نتحدث عن التدوير لا بد من معرفة أن هناك تكاليف أولية عالية خصوصاً فيما يتعلق باستبدال الآلات أو إحداث تعديلات في المصانع وإضافة آلات جديدة قد تؤثر في الربحية مؤقتاً.
كما لا تملك 74% من دول العالم مراكز فصل نفايات متطورة حسب إحصائية منظمة التطوير الصناعي التابعة للأمم المتحدة (يونيدو)، هذا إضافة إلى انخفاض الوعي العام بأهمية التدوير، حيث يرفض 60% من العملاء شراء منتجات معاد تدويرها إذا كانت أغلى بنسبة 10% حسب الإحصائيات المتوافرة.
توجد مع ذلك أمثلة ناجحة تدعم التوجه العالمي نحو الاقتصاد الدائري، ومن ضمن تلك الأمثلة ما حققته "آيكيا" عند استبدال الفلين بمواد طبيعية مصنعة من النفايات الزراعية خفضت تكاليف المواد بنسبة 17%. كما تحولت شركة فيليبس من بيع المصابيح إلى بيع خدمة الإضاءة، حيث تحدد رسوما شهرية للحصول على الإضاءة، وتسترد المواد المتعطلة لإعادة تصنيعها.
أسهمت السياسات الحكومية في دعم عمليات الاقتصاد الدائري، ومن أهم الأمثلة سياسة الاتحاد الأوروبي المسماة "حق الإصلاح"، حيث تجبر الشركات على توفير قطع غيار لمدة 10 سنوات، وهو ما سيحقق وفرا اقتصاديا للمستهلك يبلغ 180 مليار يورو بحلول عام 2030. كما أسهمت مبادرة الصين للاقتصاد الدائري - التي قدمت الدولة من خلالها إعفاءات ضريبية للشركات الخضراء - في جذب استثمارات تبلغ 32 مليار دولار في مجال إعادة التدوير. في كينيا تم فرض حظر كامل على الأكياس البلاستيكية وهو ما خلق 60 ألف فرصة عمل في صناعة الحقائب القماشية.
حقق النموذج الإسباني في إقليم "كاتالونيا" الهادف لتحويل مكبات النفايات إلى "حدائق استرجاع الموارد" نجاحاً تمثل في إعادة تدوير 87% من النفايات وتوفير ما يقارب 400 مليون يورو سنوياً.
على أن القصص ليست وردية دائماً، ففي البرازيل فشل مشروع إعادة تدوير إطارات السيارات في ساوباولو بسبب فساد في توزيع الدعم الحكومي والمنافسة غير العادلة التي مثلتها الإطارات الجديدة المستوردة من الصين.
مع ذلك يظل الاقتصاد الدائري محورياً ووسيلة للبقاء مع وجود عدد من التوجهات الثورية الجديدة مثل التكنولوجيا الحيوية التي من أمثلتها استخدام شركة "بروتيكس" الفرنسية بكتيريا تأكل البلاستيك وتحوله إلى بروتين صالح للأكل. كما أن الاقتصاد الرقمي سيسيطر في العقود المقبلة، حيث تتم مراقبة دورة حياة المنتج من خلال جواز سفر المنتج عبر البلوكتشين. كما يتم التوجه نحو التمويل المبتكر مثل سندات الاقتصاد الدائري التي تقدم عن طريق المواد المعاد تدويرها.
من هنا لا بد من التأكيد أن الاقتصاد الدائري ليس رفاهية بيئية، بل ضرورة اقتصادية ستوفر فرصا استثمارية تتجاوز سوقها 4,5 تريليون دولار بحلول عام 2030، ومنفذ للموارد يقلص 70% من انبعاثات الكربون الصناعية كأمثلة فقط.
كاتب اقتصادي