لو أن بلدا ضعيفا قام بما قامت به روسيا

أظن أن القراء الكرام يتابعون من كثب ما يجري في جزيرة القرم وأوكرانيا بالذات. وأظن أن الكثير منا يجري مقاربات ومقارنات في داخل نفسه لا سيما مع الكثير من الأحداث المتشابهة التي وقعت في الشرق الأوسط.
والمقارنة والمقاربة ركنان أساسيان لهذا العمود، من خلالهما نعرف الكثير عن أنفسنا ومجتمعاتنا وموقعنا في الإعراب ضمن عالم لا تحكمه العدالة بل القوة والسلطة.
نحن ندرس تأثير السلطة واعوجاجها وظلمها من خلال الخطاب "اللغة". لنا نظريات كثيرة ولكن واحدة من أهمها تقول إن القوي وصاحب السلطة سياسية، عسكرية، دينية، مذهبية، اقتصادية أو غيرها يلجأ إلى استخدام خطاب ينتقص من شأن الأضعف منه.
والنظرية ذاتها لا تقف عند هذا الحد. إنها تذهب بعيدا لأن ليس غايتها التفسير فقط بل النقد. والنقد يعني أنه علينا أن نجعل الضعيف بأي وسيلة ممكنة يدرك أنه مظلوم وأن نجعل القوي يدرك أنه ظالم.
الشق النقدي أساسي في هذه النظرية لأن الضعيف سياسيا واقتصاديا ودينيا ومذهبيا وعسكريا غالبا ما يستكين ويتمسكن أمام القوي ويقبل الأمور على علاتها وكما هي ويتصور خاطئا أن هذا قدره ونحن ما علينا إلا توعيته أن الخطاب السلطوي الذي يتعرض له ويستهدفه ظلم لا يجوز أن يقبل به.
روسيا غزت شبه جزيرة القرم. وهذه ليست جزيرة عادية والعملية ليست مجرد احتلال. الجزيرة لها بعد استراتيجي وعملية الاحتلال ترسل إشارة مهمة إلى العالم أن ليس كل ما يريده الغرب وأمريكا سيدركانه.
جرت مقارنات ومقاربات كثيرة في الصحافة العالمية لما وقع من أحداث مشابهة أدت إلى اشتعال حربين عالميتين في أوروبا أتتا على الأخضر واليابس فيها. ولكن هذه الحادثة بالذات رغم مرارتها يبدو أن الغرب وأمريكا ستتجرعانها وإن كانت بمثابة حبة مسمومة.
لو كانت دولة عربية أو إسلامية أو دولة أخرى ضعيفة قامت بما قامت به روسيا لكانت اليوم تنهال على رأس سكانها القنابل وتم تدمير بناها التحتية وإرجاعها إلى عصر ما قبل الصناعة وإخضاعها إلى حصار مدمر يشمل حتى حليب الأطفال وخبز الأمهات.
في حالة روسيا هناك توازن رعب ليس بالمفهوم التقليدى بل بمفهوم الفناء والتدمير. وأكثر من هذا هناك مصالح آنية وبعيدة المدى تجعل أمر فرض حصار مثل الذي فرضه ويفرضه الغرب وأمريكا على بعض الدول العربية والإسلامية أمرا شبه مستحيل.
الكثير من الدول الغربية لا سيما التي ضمن الاتحاد الأوروبي تعاني مشاكل اقتصادية كبيرة بعضها كاد يصل إلى حافة الإفلاس. وكي تبعد شبح الإفلاس أخذ بعض هذه الدول حتى بيع جواز السفر أو الإقامة الدائمة لقاء مبالغ لا تعد كبيرة حتى على مستوى من يقع ضمن المراتب العليا من الطبقة الوسطى.
في إنجلترا أفضل طريق للحصول على الجواز البريطاني يأتي من خلال استثمار عقاري بحدود مليون جنيه استرليني. ولكن هذا المبلغ يتقلص إلى 500 ألف يورو في البرتغال و250 ألف يورو في اليونان. والجواز البرتغالي واليوناني على سبيل المثال يفتح باب أوروبا أمامك على مصراعيه لا سيما المنطقة المسماة بـ "شنجن".
يطلق على هذا النوع الجديد من التجارة التي تدر مئات ومئات الملايين أو ربما المليارات من الدولارات لهذه الدول "مشروع الفيزا الذهبية". هل ستقوم دول أوروبا الغربية بتجميد أو احتجاز هذه الممتلكات والتي يقال إن الروس صاروا يملكون أغلب العقارات المهمة في لندن وأن وضع لندن كمركز مالي سيتأثر كثيرا لو أن بريطانيا فرضت حصارا على روسيا.
والأنكى فإن أي إجراء من هذا القبيل سيلحق ضررا فادحا بسوق العقارات في هذه الدول الذي بدأ للتو بالنهوض بسبب "مشروع الفيزا الذهبية" لأنه سيرسل رسالة سيئة إلى الأغنياء الصينيين الجدد الذين يتقاطرون إلى أوروبا بالآلاف لشراء الفيزا أن استثماراتهم قد تذهب أدراج الريح أيضا.
ويجب ألا ننسى أن روسيا قوة عسكرية هائلة موازية للطرف المقابل.
عالم غريب الذي نعيشه.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي