مانديلا .. رمز إنساني بألوان الطيف
يعكس الإجماع العالمي على رثاء مانديلا، أن القيم الإنسانية واحدة.. ولعل القيمة الأبرز التي كرسها مانديلا في حياته وموته هي النظرة الإيجابية إلى الحياة، والأمل في المستقبل، فمهما طال الظلم ومهما قست الظروف، فإن ثمة أملاً في آخر النفق.
وهناك بعد أخلاقي في مسار حياة مانديلا.. لا يمكن التغاضي عنه، حيث جسد أهم القيم التي نادى بها مصلحو البشرية عبر التاريخ، وهذه القيمة هي التسامح وتجاوز الآلام والترفع عن المشاعر الشخصية، وهي قيم رفعت شخصيات في التاريخ إلى أقصى درجات التقدير.
أدرك ثمن التضحية وسلبت عنصرية ''الأبارتايد'' حريته، وقهر مرارة العزلة والسجن على مدى 27 عاماً، خرج منها عظيماً، تاركاً ألمه وحقده خلفه.. شجاعاً لا يقبل إلا بالانتصار على الخوف، وأبى ألا تكون حريته بتحطيم قيده فقط، بل باحترام وتعزيز حرية الآخرين، واتخذ من الصدق والإخلاص والتواضع، شعاراً لنضاله لتكون أساساً للحياة لكل إنسان، من دون أي انتهاك لحقوقه الإنسانية.
قاوم قوانين التمييز العنصري سلمياً وعسكرياً، ورفض، وهو الذي ولد مناضلاً من الطراز الأول من رحم المعاناة، أن تتجزأ الحرية، ودفع ثمنها من سنوات شبابه، لنيلها كاملة من دون تجزئة، لإدراكه أن القيود التي تكبل فرداً واحداً، إنما هي أصفاد تقيد أبناء وطنه جميعاً، وتمسك بمواقفه داخل زنزانته، رافضاً جميع الإغراءات.
استطاع مانديلا، الذي زادته ممارسة المحاماة تصلباً في مواقفه، أن يحوّل المعاناة المشتركة للإنسانية إلى أمل للمستقبل، بنشر قيم الإنسانية والمحبة والتسامح، وهو المدرك أنها الفطرة والأسهل، بدلاً من تعلم الكره، وهو المكتسب والأصعب، فنال بذلك محبة العالم واحترامه، زاهداً في المناصب بعد خمس سنوات قضاها رئيساً لبلاده، حيث كان قائداً للجميع دون تفرقة أو تمييز، أرسى خلالها الأسس السليمة الراسخة لقيام دولة ديمقراطية لأمته التي كان دوماً يراها مكونة من أطياف قوس قزح.
خرج مانديلا أقوى من سجانيه، وكان يعرف ذلك، وسجانوه كانوا يعرفون ذلك، لكنّه قال لهم تعالوا إلى الحوار، فالجبان ليس من يهرب من المعركة فقط، بل من يهرب من الحوار حين يكون واجباً لمصلحة القضية والشعب. حاور وأصبح رئيساً ثم سلّم الراية لغيره وظل ملهماً من خارج المنصب.
رحل نيلسون مانديلا، بعد أن أضاء العالم بالأمل، وترك لشعبه ميراثاً من الحرية والسلام، حتى نال احتراماً ومكانة في قلوب الناس قل نظيريهما، وأصبح مصدر إلهام لملايين البشر ليس في القارة السمراء وحسب، وإنما في العالم أجمع، في النضال لإنهاء معاناة أبناء جنوب إفريقيا الحقيقيين، وإعادتهم إلى السيادة على أرض آبائهم وأجدادهم والعيش فيها بكرامة.
أشعر بالامتنان لأنني كنت واحدا من الآلاف الذين كتب لهم مانديلا في مجمل القضايا الإنسانية حول العالم.
سيبقى مانديلا منارة للإنسان أياً كان موقعه ولونه ودينه، فالقيم البشرية واحدة.. وسيبقى لسنوات طويلة مبعث إلهام لطالبي الحرية والمناضلين ضد التمييز في أي مكان على وجه هذه البسيطة.. فما زالت هناك قضايا تتعلق بالتمييز والاضطهاد لم تحل، ولعل أهمها قضية فلسطين التي كانت محل تعاطف شديد من قبل الزعيم الجنوب إفريقي الراحل.