مواطن بلا وطن
يقول محمود درويش ''ما هو الوطن؟ هذا ليس سؤالا تجيب عنه وتمضي، إنه حياتك وقضيتك معا''.. عبارة عميقة بمعناها، موغلة في فلسفة الفهم المستعصي على من لا يدركون ''ما هو الوطن؟'' وحتى تعرف ''ما هو الوطن'' فعليك أن تعرف أن المواطن الحقيقي لا يستطيع أن ينسلخ من جلد وطنه، ويستنسخ له جلدا ووطنا ثانيا، ويدعي أنه يعيش بهما سعيدا، إلا إن كان يسبح ضد تيار العقل المنطقي، ولذلك يعود المهاجرون دوما لأوطانهم، حتى لو كانوا في أرذل العمر فهم يحنون إلى الديار، حيث نفحات الذكريات الأولى ومراتع الطفولة وشهقة الحلم البكر، وحتى لو لم يتمكنوا من العودة في حياتهم، فإنهم يوصون قبل مماتهم أن يدفنوا في أوطانهم، ليمتزج ما حملوه بقلوبهم من ترابه الطاهر مع رائحته التي استنشقوا عبيرها أول مرة!
ـــ أتريد أن تعرف ''ما هو الوطن'' ابحث عن عامل فقير بسيط مغترب عن أهله ووطنه من أجل لقمة عيش يؤمن بها مستقبل أطفاله، وساومه على ثروة لم يحلم بها مقابل أن يهجر وطنه نهائيا ولا يعود إليه في يوم ما، هل تظنه سيقبل بعرضك وينتزع وطنه وأهله وبيته ويوافق مهما كان احتياجه؟ ومهما كان فقر وطنه وغنى وطنك، إن وجدته فأخبرني!
ـــ يقول أفلاطون ''لو أمطرت السماء حرية.. لرأيت بعض العبيد يحملون المظلات''، التبعية في التفكير لمن يجعلون الحب المشروط مقياسا للانتماء للوطن هو أمر محزن حقا، لأنهم مهما شاهدوا من تغيير إيجابي ملموس وجميل في الوطن، فسيظلون يحملون مظلات ''تبعية فكر الآخرين'' وينجرفون خلفهم ويصدقونهم حتى ولو تحقق لهم ما يريدون فهم لا يلاحظون لأنهم ببساطة أسلموا زمام التفكير لغيرهم.. المدينة الفاضلة لا توجد إلا في عقل أفلاطون، والوطن الكامل المثالي لا وجود له على خريطة العالم، ورغم ذلك سنظل نحلم أن يكون وطننا هو الأفضل والأجمل، وسيتحقق الحلم متى ما آمنا بأننا قادرون بحول الله تعالى على ذلك!
ـــ لاقى رسولنا الحبيب- عليه الصلاة والسلام- من أهل مكة صنوف الأذى والتنكيل به وبأصحابه، وفي لحظة مفارقته لموطنه الأول مكة، نظر إليها بألم وحزن وقال مودعا ''والله لولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت''، لم يبغض مكة بسبب ما فعله أهلها به وبأصحابه، ولم يسب موطنه مكة؛ لأنه لم يجد الدعم والنصرة والتأييد من ساكنيها رغم أن أغلبهم من أهله وعشيرته وذوي رحمه.
فهل ندرك أن حب الوطن لا يكون حسب رضانا أو سخطنا على مسؤول ما أو وزير معين، بل حسب الانتماء الحقيقي للوطن؟!
ـــ الوطن ليس مجرد أرض نعيش فوقها، ولا مسكنا يؤوينا من تقلبات الطقس، ولا وجهة عمل نذهب إليها صباحا ونعود منها مساء.. بل هو عشق يسري في العروق، فهل سمعتم عن شخص أراد التخلص من عشقه فقام باجتثاث عروقه من جسده ورماها بعيدا واستطاع بعدها أن يتنفس ويكمل حياته؟!
ـــ الوطن حين ترحل بعيدا عنه إما لسياحة أو دراسة أو غيرهما، فأنت في حقيقة الأمر تحمله معك بين أضلعك، تراه في قسمات بني جلدتك الذين تصادفهم بغربتك فيشتعل الحنين بداخلك، وتهفو روحك للعودة للديار، حيث رائحة قهوة ''ست الحبايب'' الممزوجة بالهيل والزعفران، وصحن ''السكري'' وخبز الصاج المدهون ''بالسمن البري'' الذي تراهن في لحظتها أنه أطيب رائحة من كل العطور الفرنسية الفاخرة التي شممتها!
ـــ الوطن ليس سهما متداولا في بورصة قابلا للارتفاع والهبوط حسب العرض والطلب!
ـــ ولا هو صفقة تجارية قابلة للتفاوض إن ربحنا فيها شعرنا بالسعادة لانتمائنا إليه، وإن خسرنا صلبنا هذا الانتماء في ساحة التجريح والإساءة!
الوطن هو أنت.. حيث تشعر بالانتماء حين تتحسس قلبك.. حيث الحب اللامشروط!
سادتي الكرام.. لقد قرأتم شيئا من فلسفة نقشتها فوق جدران عقلي وآمنت بها، ولكم أن تقبلوها، كما لكم أن ترفضوها!