صبرًا.. يا أهل الحسبة!

أتفهَّمُ النقد المنصف لأداء جهاز الهيئات كأي نقدٍ لأجهزة الدولة الأخرى، فحيث وجد البشر فثمّة أخطاء، ولا عصمة لغير الأنبياء. ولكن أن تكون الخصومة مفتعلة؛ سواء كان باختلاق الأقلام حوادث لا حقيقة لها، أو بزيادة تفاصيل تحرفُ فهم المتلقّي، أو ببتر حقائق كانت مكمّلةٌ لمشهد الحُكم، أو باستباق أحكام القضاء ونشر عرائض الاتهام بما فيها من حق أو زور!
لِمَ كلّ هذا الاستنفار لصناعة الوهم الإعلامي وشيطنة المصلحين عبر ضخِّ المقالات والتقارير والتصريحات التي ظاهرها في عين من يمكر الله بهم خفضٌ للمصلحين، وباطنها ومآلها خيرٌ عميم، وتلك سنة الله في الرسل وأتباعهم مع مخالفيهم. "يبتلون، ثم تكون لهم العاقبة".
عند العقلاء: التقويم غير التشفّي، والبناء ضدّ الهدم؛ لذا فالتركيز على أخطاء منسوبي الهيئة مع العمى المتعمّد عن واقع غيرها ـــ مع أنها في مسار الخطأ نفسه ـــ بل ضحايا أخطاء القطاعات الأخرى أكثر وأخطر، وهل من حاجة لدليلٍ في رائعة النهار؟!
إن الاتهام والتضخيم قبل التثبت، والنظر بعين واحدة، حتى إذا ثبتت براءة المحتسبين؛ اكتفوا ـــ إن فعلوا ـــ بذكر خبر جانبي صغير عن براءتهم، لا يوازي معشار ما استبقوه من الخصومات، وعند الله تجتمع الخصوم!
فهل من المروءات والشيم أن تَنشرَ ما قيل في خصمك مع عدم إبداء دفاعه عن نفسه؟ أين الفروسية والنبل؟! ومن المستفيد؟! "وربك أعلم بالمفسدين".
ألا تعجبون من طبيعة بعضهم: فلكل جهازٍ أمنيٍّ خصوم ومبغضون؛ فحرس الحدود يخشاهم ويبغضهم مهربو المخدرات والممنوعات، والشُرَطُ يخشاهم ويكرههم السراق واللصوص.. أما الهيئة فيخشاهم لصوص الأعراض ومخالفو حدود الله.
ولكل من صَعدَ مدارج السموّ والعلوّ عبر أخذه بحبل الخيرية "الاحتساب" كما قال ربنا سبحانه: "كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله" نقول:
أبشر واثبت ولا يستخفنّك ثناء مادحٍ، ولا يستفزنّك خَطَلُ قادحٍ، فمنهاج النبوّة واضح، وطريق أتباع المرسلين هو الابتلاء في ذات الله، وتذكّر أن مراتب الإنكار على حَسَبِ المصلحة الشرعية والطاقة البشرية، وتدبّر أهميّة العلم قبل الإنكار، والرفق في أثنائه، والحلم والصبر بعده، ولا تنسَ حُسْنَ العبادة، وصلاحَ القلب، وصدق الضراعة، والتعلّق بربك وحسن الظن به وعظيم الثقة بوعده ولقائه، والقنوتَ القنوتَ ورأسُه الصلاة الطويلة الخاشعة فهي جَنَّةُ المحتسبين وجُنَّتُهُم: "يا بني أقم الصلاة وأمُرْ بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور"، فتأمل كيف حال المحتسب وهو بين صلاة وصبر "واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة" إي وربي، ففي جوف صلاتك الخاشعة ستفوز بألطاف وفتوح لا يطيقها المِداد! "ومن كان من أهل الصلاة دُعي من باب الصلاة".
واعلم أنَّ أولَ ما يُكافأُ به المحتسبُ المخلصُ المتّبعُ؛ زيادةٌ في إيمانه يذوق حلاوته بلسان قلبه، "إنا لا نضيع أجر المصلحين"، كيف وهم ورثةُ المرسلين في أطْرِ الخلق على حسن العبودية للخالق؟! وإذا كان الصبر رأس الإيمان؛ فأعظم مراتبه صبر العبادة والتّعبيد.
وفي أزمنة الغربة تُضاعفُ أجورُ المصلحين بحسَبِ وجود الأعوان على الحق، فلئن تنكّر لك الخلق فأكْرِمْ بمن هو في معيّة الخلاق! ويأتي على الناس زمانٌ القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر، ولربَّما ترقَّى بالأجر حتى يُكرمَ بأجر خمسين صحابيا! فضلًا من الله ونعمة.
هذا، ولمُنتسبةِ أثارةِ علمٍ ممن رام تعطيل أو إضعاف فريضة الاحتساب بتأويلٍ أو تمحُّلٍ، وباع أخراه بدنيا غيره: نعظه بموعظة علام الغيوب: "قل إن الذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون. متاع في الدنيا ثم إلينا مرجعهم ثم نذيقهم العذاب الشديد بما كانوا يكفرون"، "واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين"، وهي أشدُّ آية على العلماء! وكيف بالملح إن حلّت به الغِيَرُ؟!
ومن لطف الله بأهل الحسبة أنه يقيّض لهم من يدفع عنهم الأذى والسوء ـــ كما نراه عيانًا من اجتماع قلوب وألسُن المؤمنين على نصرهم والدعاء لهم ـــ بل قد يدفع الله عنهم الكيد والأذى بمحض اللطف الرباني دون سبب ظاهر "إن الله يدافع عن الذين آمنوا"، لذلك فأقرب ما يكون المحتسب من معية ربّه إذا انقطعت علائق قلبه عن الخلق وتعلّقت بالثقة وحسن الظن بالخلاق العظيم "فالله خير حافظًا وهو أرحم الراحمين".
لذا فحين ترى تَنَكُّرًا لأهل الاحتساب ممن يُظن فيهم حسن المدافعة وحزم الموعظة، فاعلم أن الموفّق مَن قام بحراسة أديان الناس وأعراضهم.
ومن الأهمية بمكان: أن يكون لدى عموم الناس ثقة مطلقة بأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر صِمَامُ أمان من العذاب العام والخاص، فهي سفينة النجاة كما مثل بها النبي ـــ صلى الله عليه وسلم. وفي الصحيحين من حديث زينب ـــ رضي الله عنها ـــ أنها قالت: يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم، إذا كَثُرَ الخَبَث". ومما أُثِرَ عن عمر بن عبد العزيز ـــ رحمه الله ـــ قولُه: "كان يُقال: إن الله لا يعذب العامة بذنب الخاصَّة ولكن إذا عُمِل المنكر جهاراً استحقوا العقوبة كلهم".
ولما ذكر الله عذابه البئيس ونكاله العظيم بعصاة أهل السبت أثنى على المحتسبين المنكرين ولم يذكر نجاة الساكتين فاحذر يا من تظن أنه قد وسعك السكوت فالتبعة لا تسقط على المستطيع ما دام المنكر فاشيًا، فتدبر ـــ يا رعاك مولاك ـــ قول الكبير المتعال: "وإذ قالت أمة منهم لم تعظون قومًا الله مهلكهم أو معذبهم عذابًا شديدًا قالوا معذرة إلى ربكم ولعلهم يتقون" فالذي دعاهم للإنكار خشيتهم على أنفسهم من عذاب الله أولًا، ثم شفقتهم ورحمتهم بمن ركب المنكر من عذاب الجبار، جل جلاله، فما لأحد بغضب العظيم من طاقة.
فاصلة: لقد أحسن من قال: أسعدُ الناس رجلٌ موسّدٌ في قبره يردّد: ربّ أقم الساعة، ربّ أقم الساعة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي