رحلة التحول من الشركات العائلية إلى مكاتب العائلة
عبر قرون من التحولات الاقتصادية والاجتماعية العميقة، ظل السؤال المحوري لأصحاب الثروات واحدًا: كيف نحمي ونُنَّمي ثروتنا ونضمن انتقالها بسلاسة عبر الأجيال، بعيدًا عن مخاطر النزاعات وتقلبات الأسواق؟ من فسيفساء الحضارة الإسلامية العريقة إلى أروقة الأسواق الأوروبية، بزغت أفكارٌ مبتكرة لتأمين المصالح العائلية وحماية الأصول، كان في مقدمتها نظام الوقف الذي ابتكرته الحضارة الإسلامية متمثلًا في نموذج «الوقف الذري»، مانحًا حمايةً للمستفيدين وأداةً مؤسسية لإدارة الأصول.
هذا الإرث الخالد ألَّهم لاحقًا ظهور نظام الائتمان "الترست Trust" في القانون الإنجليزي، الذي أصبح حجر الزاوية في تأسيس البُنى المؤسسية للمؤسسات غير الربحية في الغرب. ومع ذلك، ورغم عبقرية الترست في التحايل على الضرائب وحماية الممتلكات من المصادرة، بقي مقيدًا بقيودٍ حَدَّت من مرونته في الاستجابة للتغيرات الاقتصادية، حيث اقتصرت مهامه على إدارة التركات والخدمات الخيرية، دون توفير الأدوات اللازمة لإدارة ثروات ضخمة ومعقدة أو التعامل مع متطلبات الأجيال المتعاقبة في مجالات الاستثمار والتوريث والتعليم وتخطيط المستقبل.
مع الثورة الصناعية في الولايات المتحدة، ظهر جيل جديد من الأثرياء أسسوا عائلات صناعية ضخمة، احتاجت إلى حوكمة مؤسسية أكثر شمولًا ومرونة من نظام الائتمان "الترست Trust" التقليدي، الذي كان مستوردًا من القانون البريطاني ومرتبطًا بالطبقة الأرستقراطية، ولم يكن معترفًا به محليًا.
من هنا برز مفهوم "المكتب العائليFamily Office " كيانا قانونيا مرنا، يدمج بين الإدارة المالية وحماية الخصوصية وتنظيم شؤون العائلة المالية والاجتماعية والتعليمية والخيرية، مع ضمان رقابة صارمة، وقدرة عالية على التكيف مع المتغيرات، بعيدًا عن قيود هياكل الشركات التجارية التقليدية، والإفصاح الصارم.
وبحلول القرن التاسع عشر، تبلور الشكل القانوني للمكتب العائلي كمزيج بين الوصاية والإدارة المالية والضرائب، بهدف حماية ثروة العائلة وضمان استمراريتها مع أقصى قَدرٍ من المرونة الإدارية.
وفي القرن العشرين، انتقل هذا المفهوم إلى أوروبا وآسيا، لكنه بقي في أغلب الدول بلا إطارٍ قانونيٍّ موحدٍ، إذ تُنظَّم أوضاع المكاتب العائلية بمزيج من التشريعات؛ من قوانين الشركات إلى القوانين المالية والاستثمارية والضرائب والوصاية ومكافحة غسل الأموال. هذا التنوع مَنَح العائلات حرية اختيار الصيغة القانونية الأنسب، فيما بادرت دول مثل سنغافورة وموناكو ولوكسمبورج إلى سَنِّ تشريعات شمولية خاصة بهذه الكيانات، إدراكًا لدورها الحيوي في الاقتصاد الحديث.
غالبًا ما تبدأ القصة بمؤسسٍ يُهيّئ أسرته للمشاركة في مسيرة نجاحه عبر مجلسٍ عائلي، لكن مع اتساع الاستثمارات وتنوع الاحتياجات، لم يعد هذا المجلس قادرًا على إدارة الأعمال والأصول برؤية شمولية. وهنا تبرز الحاجة إلى إدارة مركزية للثروة، تتناول كل شيء من التخطيط الضريبي المحلي والدولي وحماية الأصول، إلى ضمان انتقال الملكية والإدارة بين الأجيال بسلاسة، فضلًا عن إدارة الاستثمارات والشؤون الشخصية للأسرة - من الصحة والسفر إلى الرواتب والمناسبات - مع الحفاظ على استقلالية القرار واحتواء النزاعات وتسويتها، ولا سيما مع دخول الجيلين الثاني والثالث على خط القيادة.
تكشف الأرقام فجوة واضحة، فنحو 70% من الشركات العائلية تتعثر أو تفشل عند انتقال الملكية، وتصل النزاعات المعطلة للقرار إلى 60%. في المقابل، تنخفض هذه النسبة في المكاتب العائلية إلى أقل من 20% بفضل الحوكمة المؤسسية وآليات الخروج الواضحة. أحد الأمثلة اللافتة تجربة عائلة جيف بيزوس، حيث نجح مكتب العائلة في إدارة واحدة من أكبر تسويات الطلاق في التاريخ، دون أي أثر على إدارة شركة أمازون أو تسريب معلومات للإعلام.
أما في الشرق الأوسط، فتخسر بعض الشركات العائلية ما بين 5% و10% من قيمتها سنويًا بسبب ضعف آليات تسوية النزاعات، بينما تحقق المكاتب العائلية المنظمة عوائد استثمارية أعلى تصل إلى 15%.
إن رحلة التحول من الشركة العائلية إلى المكتب العائلي ليست مجرد تغيير في الهيكل الإداري، بل هي إعادة صياغة كاملة لفلسفة إدارة الثروة، ويعود ذلك إلى طبيعة عمل المكتب العائلي، التي تشبه التعامل مع بنك خاص أو مدير ثروات؛ فهو يدير الأصول ويقدم الخدمات باحترافية، وينفذ القرارات الاستثمارية، بينما يتركز دور المجلس العائلي التقليدي على التنسيق بين أفراد العائلة ووضع السياسات العامة، دون التعمق في التفاصيل التشغيلية أو متابعة الصورة الشاملة لأثر القرارات الاستثمارية وتنفيذها.
يمثل المكتب العائلي حائط الصد أمام التفكك، والمسرّع نحو تعظيم العوائد، والأداة التي تحوّل الثروة من رصيد معرض للتآكل إلى إرث مؤسسي قادر على عبور القرون.
-مستشار قانوني