تطوير الشخصية القضية

سعى مشروع خادم الحرمين الشريفين لتطوير مرفق القضاء إلى استحداث برامج تطويرية، بعضها يتعلق بالشخصية القضائية. وتعتبر شخصية القاضي هي شخصية إنسانية في الأصل ولا تخرج عن هذا المعنى في المعنى العام والخاص، ولذلك تخضع هذه الشخصية لكل المؤثرات الطبيعية التي تخضع لها كل الشخصيات في الغالب، ومن ذلك تربية النشأة الأولى وبيئة الأسرة ونمط العائلة.
الحقيقة التي ينبغي معرفتها لكل أفراد المجتمع أن الخلفيات الحياتية والخريطة الذهنية هي جزء لا يتجزأ من شخصيات الأفراد والتي تلبس أخيرا لباس الوظيفة بأنواعها.. ومن ظن أن هؤلاء الأفراد لهم هيئات خاصة وشخصيات محورية لها مقامات خاصة وأنماط مثالية فقد ابتعد كثيراً عن التصور الصحيح حتى مقام النبوة والتي لا تتأتى لأحد من البشر لا من قريب أو بعيد إلا بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى، وقد تم ختم بابها بمحمد ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ تسليما كثيراً، حتى مقام النبوة لم ينزع عن بشريته ولذلك عندما طلب كفار قريش معجزات مساندة لمقام النبوة بيّن القرآن مقام النبوة بقوله تعالى ".... قل سبحان ربي هل كنت إلا بشراً رسولا.."، لذلك فإن شخصية القاضي وغيره هي امتداد لشخصية أي إنسان تخضع لتأثيرات الظروف الأولى والصبغة الأسرية والاجتماعية ودورها في بناء النفس والفكر.
بقي هناك مؤثرات خارجية تؤثر في شخصية القاضي مثل الملازمة القضائية والتي تختلف من القضاء العام عن القضاء الإداري، فالقضاء العام تخضع الملازمة فيه لمؤثرات عملية ويكون الملازم فيها مراقبا للعمل وممارسا في أحيان قليلة شيئاً فشيئاً حتى تصبح الممارسة لديه هي الأصل، بينما في القضاء الإداري يكون الملازم ممارسا من الوهلة الأولى ولذلك تحصل له تجارب كثيرة قد تحدث فيها أخطاء خاصة مع ازدياد أعداد القضايا وكثرة القضايا المستأنفة وعدم إذكاء روح الاجتهاد القضائي في قضاة الاستئناف، فتعامل القضايا المتشابهة كلها على شاكلة واحدة مع اختلاف الظروف والأحوال والتي لها دور في إنزال حكم الفتوى وكذلك الحكم القضائي.
هذا عن الملازمة عموماً، أما شخصية القاضي العلمية فمع الأسف أن كثيراً منها يتوقف في هذه المرحلة ويبدأ الاتكال على التجربة والسوابق القضائية، ولا يوجد ضمن البرامج التطورية أي برنامج يساعد في رسم ملامح الشخصية القضائية التي تستطيع ابتكار أصول جديدة في الإجراءات والمرافعات أو البحث في المبادئ القضائية التي تغيرت أحكامها وعللها أو التجديد في أساليب تسبيب الأحكام أو تكييف القضايا، كذلك عدم اكتساب مهارات في البرامج العقلية وأدوات التفكير والتي لها دور كبير في شخصية القاضي واتزانه في تقييم المواقف وتحديد الرأي حالة الاشتباه، كذلك المعارف السلوكية والتي تبني شخصية القاضي العملية سواءً في معرفة أنماط الناس وشخصياتهم أو التعامل الأمثل معهم خاصة قضايا السجون والأحداث والدوافع النفسية خلف ارتكاب الجرائم والمخالفات.
ومن المهم في تلك المرحلة الحذر من الصفات السلبية التي تُكتسب أثناء الملازمة مثل الجفاف الأخلاقي بحجة أن هذه الشخصية هي أكثر حيادية كما يزعم البعض، وعموما كل ما كانت إدارة مرفق القضاء تلامس هموم القاضي والمترافعين كانت أقدر على إيجاد برامج مهارية تساهم في تطوير الشخصية القضائية ليكون أكثر فاعلية في التعامل مع أطراف الدعوى، وأيضا الحكم في القضايا، لذلك عندما نذكر أن شخصية القاضي هي شخصية أي إنسان فمعناه أنه يمكن إضافة كل المتغيرات والأشكال على هذه الشخصية مع أن تنشئة الإنسان في السنوات الأولى هي أعظم مؤثر في شخصية الإنسان وعليها تنكسر كل موجات التأثير والتغيير متى ما كان ذلك البناء صلباً.
بقي القول أن هناك قضاة يتعجب من يترافع لديهم من قدرتهم العجيبة على استيعاب كل أشكال الناس على مدار فترات طويلة، بل وقدرتهم على امتصاص المشكلات والكوارث الأخلاقية والاجتماعية التي تعج بها القضايا يومياً دون أن تحدث تلك القضايا أي آثار سيئة في نفسية القاضي وشخصيته، بل على العكس هو يمنح أصحاب القضايا الروح الإيجابية كطاقة متدفقة يعم بنفعها البلاد والعباد وهؤلاء ولله الحمد يزيدون، ولكن ينبغي أن نحرص أن يكون الجميع أو الغالب بهذا الشكل وأن تكون للإدارة القضائية خطة طموحة في الالتفات إلى شخصية القاضي العلمية والسلوكية والآثار السلبية التي قد تحتك بشخصية القضاة أثناء عمله وكيفية معالجتها وفق خطط شمولية تتضمن قوانين التدريب القضائية الأساسية وهي:
1- إعطاء معلومات قضائية جديدة تعالج النقص المعلوماتي.
2- تغيير القناعات اللا إيجابية أو الجامدة في الشخصية الأساسية أو في فترة الملازمة وما بعدها.
3- زرع مهارات تزيد من التطور في شخصية القاضي والتي هي أيضاً تطوير للعملية القضائية بكاملها.
إن الاهتمام بشخصية القاضي نقطة محورية في الحياة القضائية والتي هي جزء من الحياة العامة وإن إهمالها هو إهمال لجانب أساسي من الجوانب الحياتية للمجتمع الذي أصبحت جوانبه متشابكة حيث لا يمكن انفكاك جانب منها عن جانبٍ آخر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي