«ثقافة» الاستهلاك والاستعراض
لا يزال الاستهلاك المنفلت يمثل حالة مستدامة في العالم العربي بشكل عام، وفي منطقة الخليج العربية بشكل خاص، ورغم المتغيرات الاقتصادية التي تفرض بالضرورة معاييرها على المجتمع، ظلت ''ثقافة الاستهلاك'' على حالها، بل دخلت في نفق الاقتراض الشخصي الرهيب، الذي يمتد ويمتد.. وفي أغلب الأحيان لا مخرج منه، وكثيراً ما يصاحب هذا الاستهلاك، استعراض يفرض على المستهلك ''الهائم'' قيوداً متسلسلة، تضعه أمام التزامات وهمية صنعها بنفسه، فما إن يدخل في عالم الاستعراض، حتى يصبح أسيراً مطواعاً له، يعيش طبقاً لمعاييره، بل قوانينه، فالاستهلاك (ولا سيما المنفلت منه) يفرض انفلاتاً مدمّراً لموازنة المستهلك، سرعان ما يتحوّل إلى أزمات خطيرة، لا تنال من الرصيد فحسب، بل من الحياة المعيشية والاجتماعية لصاحب الرصيد.
هناك حالة عامة واضحة، وهي أن المواطن الخليجي مستهلك منفلت، ولأنه كذلك فهو مسرف، وقد تكرّست هذه الحالة في أعقاب الأزمة الاقتصادية العالمية، التي فرضت على كل العالم معايير جديدة، لكنها بقيت عند حدود دول الخليج العربية، بمواطنيها ووافديها ولا سيما العرب منهم، وبقي غياب المواءمة بين الإنفاق (الاستهلاك) والادخار حاضراً، خصوصاً عند المواطن الخليجي، الذي لا تبدو في الأفق أي مؤشرات على أنه سائر في الطريق الذي يوصله نحو موازنة متوازنة لدخله وإنفاقه، فمع مغريات الإقراض الشخصي المنتشر في أغلبية دول الخليج، تصل نسبة نجاح المواطن الخليجي في هذا المجال صفراً. وتكفي الإشارة إلى أن الأغلبية العظمى من دول العالم، شهدت تراجعاً رهيباً في الإقراض (ما بعد الأزمة)، بينما استمرت عمليات الإقراض في الدول الخليجية على وتيرتها، والنتيجة ظلت على ما هي، إنفاق أعلى من الدخل، واستهلاك أقوى من متطلبات الحاجة. وبهذه النتيجة ظل المواطن الخليجي ينفق المال قبل أن يحصل عليه، وعندما يحصل عليه ''يكتشف'' أنه أقل مما أنفقه.
لا توجد قوانين في العالم يمكنها أن تمنع الفرد من الاستهلاك المنفلت، ولكن هناك آليات توعوية كثيرة يمكن أن تؤسِّس (وتنشر بعد ذلك) ثقافة استهلاكية جديدة، تستند إلى حقيقة ما يملكه الفرد، لا على وهم ما يمكن أن يملكه، وهذه الآليات لا تزال غائبة في العالم العربي بشكل عام، والخليجي بشكل خاص، وإن وجدت هنا وهنا، فهي بالتأكيد متواضعة. وحتى جمعيات حماية المستهلك تحظى بفهم خاطئ في الخليج، فهي تتعامل مع القضايا التي تحمي المستهلك فقط في حدود الأسعار ونوعية السلع، دون أن توسع نطاق عملها ليشمل التوعية في مجال الإنفاق الشخصي، وإذا أضفنا ''الآثام'' المصرفية الناتجة من إغراءات الإقراض، فإننا أمام مشهد اجتماعي مريع، تستشري آثاره كالمرض في جسد المجتمع. من هنا، فإن المنتصر حالياً، مجموعة من القوى التي تمتلك الوسائل الدعائية الهادفة للتأثير المباشر والترويج والترغيب، بصرف النظر عن أهمية وضرورة السلع المعروضة للبيع بالنسبة للمستهلك.
الاستهلاك، الاقتراض، والاستعراض، ثلاثي فيه من الأذى ما يدفع إلى التحرُّك نحو بناء الثقافة الاستهلاكية المطلوبة للخليج العربي كله. ودون هذا التحرُّك الآن، وفق صيغ متطورة، سيواصل المجتمع اضطرابه الساكن حتى ينفجر، وهذا الانفجار سيولّد أزمة مجتمعية حقيقية فعلاً، لن ينفع معها ''الترقيع'' الاقتصادي، ولا الحلول الوسط. فالهدف السائد الآن على الساحة الخليجية، هو امتلاك السلعة (أي سلعة) بصرف النظر عن الحاجة إليها، وأولى قواعد الثقافة الاستهلاكية المطلوبة، أن يكون المستهلك بحاجة إلى السلعة، لا أن تكون السلعة بحاجة إليه، وعلى هذا الأساس تنطلق الثقافة المرجوة التي ستكون أداة من أدوات ليست فقط لحماية المستهلك وتثقيفه، بل أيضاً لصيانة المجتمع وتطويره.