خصخصة الإصلاحيات والسجون

أعجبني انفتاح الجهات القضائية والأمنية على العقوبات البديلة، خصوصاً ما يتعلق بخدمة المجتمع. المداولات التي انتشرت في وسائل الإعلام حول استخدام العقوبات البديلة وسيلة للإصلاح ولعلاج كثير من الجنح والمخالفات بالتعاون بين القضاء والمؤسسات العقابية، إيجابية للغاية. وما دمنا في مجال تطوير المفاهيم القضائية والعقابية، أكتب اليوم في موضوع سبق أن تناوله أحد الاجتماعات التحضيرية لمؤتمر وزراء الداخلية العرب، ثم اختفى من الصورة، ولم يعد أحد يتحدث فيه، وهو تخصيص المنشآت العقابية.
يهدف تخصيص السجون والإصلاحيات لتنفيذ عقوبات الجرائم البسيطة بطريقة أفضل وتكلفة أقل من قبل القطاع الخاص المتمكن، تحت رقابة أجهزة الدولة المختصة.
ظهر مفهوم تخصيص السجون في الولايات المتحدة منتصف القرن التاسع عشر، حيث تم نقل مسؤولية توفير الحراسات لشركات قامت بتوظيف حرس للسجون في لويزيانا ونيويورك. اختفت الفكرة بعد فترة قصيرة نتيجة الفساد الذي انتشر ودعاوى أقيمت ضد عمليات تشغيل السجناء الذين كانت منتجاتهم تسيطر على السوق، في مقابل رواتب متدنية.
على مستوى العالم العربي، نظمت الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب مؤتمراً بحث مقترح ''خصخصة السجون العربية'' في عام 2006، وذلك في سياق التحضير لاجتماع وزراء الداخلية العرب. حضر المؤتمر عدد من مديري السجون والقضاة وكبار ضباط الأمن في العالم العربي. ناقش المؤتمر عددا من المشاريع التي تهدف إلى إشراك القطاع الخاص في بناء السجون وتمويل صيانتها وتنفيذ مشاريع ربحية داخلها. هذا إضافة إلى دراسات ونقاشات سابقة ركزت على مزايا وعيوب عمليات التخصيص.
تجاوزت عملية الإدارة والتشغيل جزئية التنفيذ لتسهم في إنشاء السجون، إضافة إلى إدارتها. وتفوقت شركات القطاع الخاص في خفض التكاليف وتحقيق أرباح تجاوزت مليار دولار. تقدر تكاليف تنفيذ أعمال الإنشاء من قبل القطاع الخاص بما يعادل نحو 70 في المائة من التكاليف التي يدفعها القطاع العام، ويمكن توفير نحو 20 في المائة من نفقات التشغيل والإدارة في حال اعتمدت الخصخصة.
أسهمت عمليات إنشاء وإدارة وتشغيل المنشآت الإصلاحية من قبل القطاع الخاص في تطوير المفاهيم الإدارية في سجون القطاع العام. انتهجت الشركات مبادئ إدارية مهمة، باستخدام الوسائل الإحصائية في مجالات تشمل: توزيع الورديات على المواقع، اختيار الموظفين، وتوفير أنظمة دعم القرارات الإدارية MIS. هذا أدى إلى تحسين الكفاءة وخفض التكاليف. تميزت المنشآت التي يديرها القطاع الخاص بكفاءة أكبر في تقليص حالات هروب السجناء حيث لم تسجل أي حالات هروب كبيرة في هذه المنشآت، إضافة إلى وجود عدد أقل من الإضرابات في هذه المنشآت.
تصنف جميع المواقع التي يديرها القطاع الخاص حالياً في خانة ''منشآت الحد الأدنى من إجراءات الأمن''. تشمل المنشآت من هذا النوع إصلاحيات المراهقين ومناطق الحجز في المستشفيات والمحاجر، كما تضم السجون التي يحتجز فيها مرتكبو الجرائم الأقل خطورة. أما مرتكبو الجرائم الكبيرة أو الموضوعون على قوائم الإعدام، فليسوا موضوع بحث هنا. السبب المهم لهذا هو تركيز عمليات المراقبة وضمان الحماية وتطبيق القانون بالشكل الصحيح، إضافة إلى الفصل بين مستويات المخالفات المرتكبة.
يتم داخل هذه المنشآت توفير السكن والغذاء والعلاج والتعليم في مقابل تنفيذ أعمال ذات مردود اقتصادي للسجين والشركة. تختار الشركة الأنشطة التي تحقق لها الربح الأكبر. هذا يستدعي وجود رقابة على أعمال التشغيل وساعات العمل، ونوعية المهارات التي يتعلمها المحتجز من قبل الجهات الرسمية. هذه الرقابة تكون عادة أكثر كفاءة لأن الجهات الرقابية تستطيع محاسبة ومتابعة أعمال ومنشآت القطاع الخاص أكثر من القطاع العام.
تستخدم عملية إدارة الإصلاحيات من قبل القطاع الخاص في أربع دول أهمها الولايات المتحدة التي تضم المنشآت المخصصة فيها ما يقارب 122870 سريراً في 158 منشأة إصلاحية تتوزع على 43 ولاية أكبرها تكساس، هذه العدد يشكل نسبة 7 في المائة من استيعاب سجون الولايات المتحدة. كما توجد منشآت يديرها القطاع الخاص في أستراليا (12) منشأة، وبريطانيا (10) منشآت، وجنوب إفريقيا (4) منشآت. تحتوي هذه المنشآت ما يزيد على عشرة آلاف سرير.
تنفق الولايات المتحدة على مشاريع إنشاء السجون أكثر من ستة مليارات دولار سنوياً، ويزداد عدد الحراس العاملين في هذه الوحدات 50 ألفاً كل عام، إضافة إلى العاملين في وظائف الإدارة والصيانة والخدمات الصحية والتعليمية. وهذه المبالغ مرشحة للارتفاع. تعاني السجون في كثير من دول العالم مشكلتين مهمتين هما الاكتظاظ والانتكاس ''العودة إلى ارتكاب الجريمة''، وهي مشكلات استدعت إيجاد بدائل مقبولة.
حققت الخصخصة نتائج جيدة من نواحي الإدارة والمتابعة، الأمر الذي شجع بعض الولايات على تكليف الشركات الخاصة بعمليات مراقبة المخلى سبيلهم وهم تحت المراقبة بواسطة الأساور الذكية. وهي فكرة نبعت من الشركات نفسها كوسيلة لخفض أعداد السجناء.
يقضي 5 في المائة من السجناء مدد عقوباتهم في الإصلاحيات التي يديرها القطاع الخاص في الولايات المتحدة. حيث تعمل في المجال 17 شركة. عدد الشركات مرشح للانخفاض نتيجة الاندماج وتوسع حجم العمل. إلا أن عدد المنشآت وسعتها مرشحة للارتفاع بسبب انخفاض التكاليف وكفاءة الأداء. التوجهات المستقبلية لا ترجح تحويل منشآت ذات تصنيف أمني عال للقطاع الخاص بسبب حساسية إدارة هذه المنشآت.
أهم عناصر تقويم نجاح خصخصة منشآت الإصلاح والسجون هو ضمان أن يقضي المدانون عقوباتهم المستحقة وأن يعودوا ليصبحوا عناصر فاعلة ومنتجة في المجتمع، إضافة إلى خفض التكاليف على الدولة. هذا يستدعي مراقبة التجارب العالمية والاستفادة منها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي