التحكيم الرياضي بين المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان والسوق
أصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أخيرا حكمًا بالغ الأهمية في قضية العداءة الجنوب إفريقية كاستر سيمينيا، شكل هذا الحكم محطة فاصلة في النقاش الدائر حول توازن العلاقة بين استقلالية الهيئات الرياضية الدولية وخضوعها للرقابة القضائية.
فعلى الرغم من أن القضية بدت في ظاهرها نزاعا فرديا بشأن أهلية المشاركة في منافسات رياضية، فإنها سرعان ما تحولت إلى ملف قانوني وحقوقي معقّد، يتجاوز حدود الملعب ليطول البنية المؤسسية للتحكيم الرياضي، ويرافق ذلك بدايات لتحوّل في ملامح السوق الرياضي العالمي
ترجع خلفية القضية إلى لوائح أصدرها الاتحاد الدولي لألعاب القوى، نصّت على اشتراط خفض مستوى التستوستيرون لدى بعض الرياضيات اللواتي يتمتعن بخصائص بيولوجية طبيعية معينة، كشرط للمشاركة في فئات محددة من السباقات.
وقد طُبّقت هذه التدابير على كاستر سيمينيا، رغم عدم تسجيل أي مخالفة ضدها لقواعد النزاهة أو تعاطي مواد محظورة.
اعتبرت سيمينيا أن هذه اللوائح تمسّ بحقها في التنافس وتشكّل تدخلًا غير مبرر في سلامتها الجسدية، فلجأت إلى محكمة التحكيم الرياضي (CAS)، التي أقرت بوجود تمييز في اللوائح المعنية، إلا أنها رأت أن هذا التمييز مبرر في ضوء الحفاظ على "عدالة المنافسة".
استأنفت سيمينيا هذا القرار أمام المحكمة الفيدرالية العليا في سويسرا، غير أن الأخيرة اكتفت بمراجعة الإجراءات الشكلية دون التطرق إلى جوهر المسألة أو تأثيرها الحقوقي.
وعند استنفاد سيمينيا للسبل القضائية الوطنية، لجأت إلى المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان، التي قضت بأن العداءة لم تحصل على محاكمة عادلة، وأن الرقابة القضائية المتاحة أمامها لم تكن فعّالة أو كافية، ولا سيما بالنظر إلى طبيعة الحقوق التي تمسّها القضية
وقد شكل هذا الحكم نقطة تحوّل مفصلية، إذ سلّط الضوء على الثغرات الإجرائية والضوابط المحدودة التي تحكم منظومة التحكيم الرياضي، وأعاد طرح تساؤلات عميقة حول مدى حيادية هذا المسار واستقلاليته، لا سيما عندما يُفرض على الرياضيين كخيار إلزامي.
وأسهمت هذه القضية في زعزعة الثقة بنموذج مؤسسي طالما وُصف بالاستقرار، ما وسّع دائرة الشكوك وفتح الباب أمام سيناريوهات متعددة بشأن مستقبل هذه المنظومة
هذه الشكوك، إن تُركت دون معالجة، قد تمتد إلى أبعاد اقتصادية أوسع، وتظهر على منظومة الاستثمار الرياضي بأكملها. فالرياضة اليوم باتت قطاعًا اقتصاديًا متكاملًا، يقوم على شراكات طويلة الأجل، وصفقات رعاية كبرى، ومناخات تجارية عالمية تعتمد بشكل مباشر على وضوح القواعد واستقرار البيئة التنظيمية.
وفي هذا السياق، يُنظر إلى أي ضعف في الحوكمة أو غموض في آليات الفصل في النزاعات باعتباره مصدرًا للمخاطر التنظيمية، قد يُثني المستثمرين أو الجهات الراعية عن الانخراط بثقة في القطاع
الحكم الصادر عن المحكمة الأوروبية لا يُغلق ملفًا قضائيًا بقدر ما يعيد توجيه الأنظار إلى البنية التنظيمية التي تقوم عليها منظومة التحكيم الرياضي، وما تفرزه من آثار في مناخ الاستثمار في هذا القطاع.
وبينما تبقى هذه المنظومة قائمة بدورها ومكانتها، فإن المعطيات الجديدة تفرض مراجعة للتوازن القائم بين استقلال الهيئات الرياضية من جهة، ومتطلبات الرقابة والشفافية من جهة أخرى.
ومن شأن هذه التطورات أن تدفع الفاعلين في السوق إلى إعادة تقييم المخاطر المرتبطة بالنزاعات الرياضية، وتثير تساؤلًا مشروعًا عما إذا كانت اللحظة الراهنة تمثل بداية لتحوّل مؤسسي أعمق، أم أنها تظل ضمن نطاق المراجعة الإجرائية المحدودة.
مستشارة في الشؤون الدولية والسياسات العالمية