تأثير نموذج البنية التحتية في تموضع الدول عالميا
إن قضية تطوير البنية التحتية ليست مجرد مسألة هندسية أو تنظيمية، بل هي انعكاس عميق لفلسفة الدولة في التعامل مع النمو والكفاءة والحوكمة والعدالة التوزيعية للميزانية، حين يُطرح السؤال عمّا إذا الأفضل أن يتم تطوير البنية التحتية من خلال جهات متعددة أم من خلال وزارة مركزية متخصصة، فإن الإجابة تتجاوز الاعتبارات التنظيمية لتُلامس جذر الفكر الاقتصادي والإداري والاستثماري في الدولة الحديثة.
في الاقتصاد، يُنظر إلى البنية التحتية مثل النقل والطاقة والمياه والبنية التحتية السكنية والمناطق العمرانية كسلعة شبة عامة- لا يستطيع الأفراد إنتاجها بمفردهم، لكنها تُشكل بيئة تمكينية ضرورية للنمو الشامل.
لذلك فإن تشتت المسؤولية على جهات متعددة قد يُنتج ديناميكية سوقية داخل الجهاز الحكومي نفسه، لكنها تُخاطر بإضعاف ما يُعرف بـ "الاقتصاد المؤسسي التكاملي"، حيث تفضي كثرة الفاعلين إلى صعوبة تنسيق الإستراتيجيات طويلة الأمد، ما يضعف العائد التنموي على الاستثمار العام.
أما الوزارة الموحدة في موضوع البينة التحتية فهي تجسد "الاقتصاد المنسق" حيث يُدار الاستثمار في البنية التحتية ضمن رؤية شمولية، تتكامل فيها الموارد والقرارات والابتكار، ما يُعزز القيمة المضافة الوطنية.
من منظور إداري، لا يتعلق الأمر بالهيكل التنظيمي فقط، بل بفلسفة القيادة، ففي النموذج المتعدد، تسود الإدارة القطاعية، وقد تؤدي إلى تعارض الأولويات وغياب المساءلة المشتركة، فيما تُتيح الوزارة المركزية بناء عقل إدارة واحدة يتبنى الحوكمة الرشيدة، ويطور مؤشرات أداء شاملة، ويمارس التخطيط الإستراتيجي بطريقة تشاركية والإدارة هنا تتحول من كونها أداة تنفيذ، إلى عقل مفكر ينسج البنية التحتية كنسيج اجتماعي واقتصادي وثقافي.
أما من زاوية الاستثمار، فغياب التمركز يجعل من الصعب تسويق المشاريع أمام المستثمرين المحلين والدوليين، ويضعف القدرة على تقديم نموذج مالي جذاب للشراكة، الوزارة المركزية الفعالة تُمكّن من ابتكار نماذج تمويل مبتكرة، كالصناديق السيادية المخصصة للبنية التحتية، أو العقود طويلة الأمد التي تُغري القطاع الخاص بضخ الاستثمارات في مشاريع ضخمة بمخاطر محسوبة، التمركز هنا لا يعني السيطرة كما عٌرف عن المركزية كنموذج، بل يعني الوضوح والقدرة على ترجمة السياسات إلى فرص استثمارية فعلية ومتكاملة تغطي البنية التحتية بشكل شمولي وغير مشتت.
في سياق الحوكمة، فآن الجهات المتعددة تعكس منطق الإدارة الحكومية التشاركية، لكنها تحتاج إلى هياكل تنسيقية عالية، في حين تُرسخ الوزارة المتخصصة رصد الأداء بشكل دقيق للبنية التحتية وتقويم الأثر التنموي وضمان الشفافية والمساءلة بطريقة مباشرة، والمفارقة هنا أن الدول التي تحقق درجات عالية في التنافسية العالمية تجدها تصيغ بنيتها التحتية بشكل مركزي.
عالمياً المنافسة والتنافسية بين الدول أصبحت تُقاس بمدى جودة وتكامل بنيتها التحتية فالتقارير الدولية كـ Global Competitiveness Index تربط بين كفاءة البنية التحتية والنمو المستدام وسهولة ممارسة الأعمال وجودة الحياة، وفي هذا السياق، الوزارة المركزية ليست مجرد جهة تنفيذ، بل هي ذراع إستراتيجي في تعزيز تموضع الدولة عالمياً، إذ تُصبح البنية التحتية أداة دبلوماسية واقتصادية وسياسية، تُعزز من فرص الاستثمار وتجذب الكفاءات.
في النهاية، الاختيار بين النموذجين لا ينبغي أن يكون ثنائياً جامداً، بل يجب أن يُبني على فلسفة الدولة في إدارة المستقبل، هل تسعى إلى التنسيق والإبداع ضمن منظومة مركزية متكاملة وبميزانية فعالة؟ أم تراهن على التعدد المؤسسي كأداة للمرونة بما فيها من تحديات للميزانيات والجهود المتكررة والتنسيق المعقد بين القطاعات، وفي كلتا الحالتين، تبقى الحكمة في التنفيذ هي الفيصل، ويظل السؤال الاقتصادي مفتوح في صياغة نموذج يعكس طموحات وطن لا يرضى إلا بالقمة.
اقتصادي في السياسات الاقتصادية وإدارة إستراتيجيات الأعمال والشراكات الإستراتيجية.