الفقراء يتفوقون على الأغنياء
<p><a href="mailto:[email protected]">imbadawood@yahoo.com</a></p>
لم أفاجأ عندما أعلن أن الشخص الذي كنت أرافقه على مدى يومين متتالين قبل قرابة شهر من الآن قد نال جائزة نوبل العالمية للسلام فمنذ زيارتي له في مكتبه في بنك جرامين – وجرامين هي كلمة بنجلادشية ترجمتها القرويون - في دكا ببنجلاديش قبل ثلاث سنوات شعرت بأنني أمام رجل بدأ نشاطه على أساس عملي راسخ وترك التنظير والحديث ليدع النتائج والأرقام تتكلم نيابة عنه، ترك المكتب والجامعة والشهادة وأجواء المكيفات الباردة ليخرج ماشياً في شوارع دكا الحارة وقراها المجاورة لها يسأل نفسه ماذا يمكنني أن أعمل لشعبي وكيف أساعدهم ليخرجوا من الفقر الذي أحاط بهم من كل جانب ترك صداقة الأكاديميين والمتعلمين وحرص على مصاحبة الفقراء والمحتاجين والارتباط بهم.
رأس المال الذي أعتمد عليه عند بدايته قبل أكثر من 30 عاماً لم يكن في حقيقته مالاً فالمال لم يتجاوز 27 دولاراً بل كان رأسماله الذي لا يقدر بثمن هو ثقته فيمن كان يعمل معهم سواءً من أفراد مجتمعه الذين حرص على مساعدتهم أو من خلال معاونيه الذين كان بعضهم طلبة له في الجامعة فاقتنعوا بفكرة أستاذهم العملية وهاهم اليوم يديرون البنك الذي حاز أعظم جائزة للسلام في العالم.
إنها قصة نجاح جميلة يجب أن تستفيد منها البنوك في عالمنا العربي ويجب أن تدرسها بعناية وتعمل على تطبيقها بما يتلاءم مع ظروف وأوضاع كل منطقة، فالفقر الموجود في الدول العربية لن يكون أسوأ من الفقر الموجود في بنجلادش ولكن ما نحن في حاجة إليه هو أن نتوقف قليلاً عن الكلام ونتجه للعمل والتنفيذ وتحقيق النتائج. والبرفسور محمد يونس عندما بدأ في تقديم القروض من جيبه الخاص في عام 1976 م لبعض أفراد مجتمعه لم يبدأ عمله من خلال دراسات أو أبحاث أو لجان أو مؤتمرات أو غيرها من الإجراءات بل بدأ مباشرة من الميدان، ولمس بنفسه احتياجات الناس وتعرف على المشاكل ووضع الحلول السريعة لها وأخذ يعمل من الميدان ويقرض الناس حتى بلغ عدد المقترضين اليوم أكثر من 6.6 مليون مقترض 96 في المائة منهم من السيدات وبلغ إجمالي المبالغ التي تم إقراضها 5.7 مليار دولار، وانتشرت فكرة البنك في أكثر من 100 دولة من الولايات المتحدة إلى أوغندا.
ومما ذكره البرفسور محمد يونس خلال المحاضرة التي قدمها الشهر الماضي في مقر البنك الإسلامي للتنمية أن من أهم عوامل نجاح بنك جرامين هو اعتماده على سياسات ولوائح مخالفة تماماً لنظام لوائح البنوك التقليدية وفي مقدمتها توفير الضمانات. ومع ذلك فإن نسبة سداد القروض قد بلغت 98 في المائة، ومن العوامل المساعدة على بلوغ هذه النسبة هي أن الفئة المستفيدة من القروض من الفقراء الذين يعرفون قيمة المال جيداً ويحرصون على إنفاقه في ما هو مهم وضروري ويهتمون بإعادة ما اقترضوه حرصاً منهم على نيل قرض آخر مستقبلاً أكبر ورغبةً منهم في أن يكون سجلهم الائتماني نظيفاً وهم بذلك أفضل من غيرهم من المقترضين، كما أن الأغلبية من المقترضين هم من السيدات اللاتي يحرصن على استخدام القرض فيما يعود على عائلتهن وأبنائهن بالنفع والفائدة سواءً كغذاء أو تعليم أو دواء أو غيرها من الأمور الرئيسية. ويؤكد البرفسور محمد يونس أن المرأة أكثر حرصاً واهتماما بعائلتها من الرجل خصوصاً الأبناء ولذلك فهي تحرص على الاستفادة من القرض بشكل إيجابي من الرجل الذي قد يصرفه في بعض الأغراض الشخصية.
لا تكفي الأعمال النية الحسنة أو الرغبة أو العزم لكي تظهر للوجود ولكن تحتاج مع هذا كله إلى العمل الميداني الجاد والإصرار والتحدي وإتاحة الفرصة للناس ، وكثيراً ما كان البرفسور محمد يونس يستشهد أن الناس كالنبتة الصغيرة إن وضعتها في وعاء زرع صغير ستنمو في إطار الوعاء وسيكون حجمها وفائدتها محدودين ولكن إن وضعتها في أرض فضاء ستكبر بلا حدود وستصبح شجرة عظيمة ينعم بظلها وخيرها الكثيرون .
لقد تفوق الفقراء على الأغنياء بحصولهم على جائزة نوبل من خلال البرفسور محمد يونس وبنك جرامين الذي قاموا بتأسيسه وحرصوا على أن يكون منافساً للبنوك العالمية ونجحوا في ذلك مقدمين للعالم كله درساً عظيماً وهو أن المال وحده لا يحقق شيئاً بل لابد من العمل مع النية الصادقة ليتحقق كل شيء.